منذ 5 سنة | 4362 مشاهدات
وجد بعض القراء تعارضا بين القول بأن الشعب التونسي ما زال أبعد من الشعب المصري عن تحقيق الإنبعاث الحضاري وبين تأكيدنا في مقالات سابقة على أن بناء نظام ديمقراطي راسخ هو شرط لهذا الإنبعاث، فقد بدا لهم أنه مادام الشعب التونسي قد حافظ على الديموقراطية بينما خسرناها نحن فلابد إذن أنه الآن في موقف أفضل منا فيما يتعلق ببناء نهضته المعاصرة .. أظن أنهم لم يقرأوا المقدمات الستة التي جعلناها مسلمات للبحث (راجع المقال السابق)، وقد وضعنا على أي حال عنوانا فرعيا للمقال هو: لا تغرنكم الظواهر.
أنا أعتقد فعلا أن الديموقراطية هي شرط لإستعادة الحياة الإسلامية التي هي مقدمة للنهوض الحضاري (راجع مقال "فرض الوقت")، لكن الديموقراطية شرط لازم غير كافي، فالوضوء مثلا شرط لصحة الصلاة، لكنه ليس جزءا منها، ومجرد الوضوء وحده لا يعني أنك قد دخلت في الصلاة، وإذا قمت بكل أفعال الوضوء بغير نية إزالة الحدث فإنك في الواقع لم تفعل شيئا .. هناك شروط موضوعية أخرى لابد من توافرها في التوجهات الفكرية للشعب حتى يمكنه الإستفادة من الديمقراطية في بناء مجتمع متقدم.
نعود للمقارنة بين الواقع الفكري للشعب في تونس والشعب في مصر.
في بحث ميداني تم في مارس/ إبريل 2013 قامت به مجموعة من جامعة ميريلاند الأمريكية بالإشتراك مع غيرها بهدف التعرف على قيم ومدركات شعوب دول "الربيع العربي" أشارت النتائج إلى وجود هذه الفوارق في عدة مجالات، ولنأخذ بعض المؤشرات الموحية بالنسبة لموضوعنا (يقع البحث في حوالي 130 صفحة).
18% فقط من التونسيين أعطوا أهمية لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، مقارنة ب56% من المصريين، رغم أن عينة البحث التونسية كانت كلها من المسلمين، بينما إحتوت العينة المصرية على 14% من المسيحيين (كما أن المسح كان في إبريل 2013، عندما كانت شعبية التيار الإسلامي في أدنى درجاتها) .. هذه النتيجة توضح أن الشعب التونسي لم يدرك بعد أهمية إستعادة الحياة الإسلامية لتحقيق نهضة حقيقية، ويبدو هذا أكثر جلاء في تأييد ثلاثة أرباع التونسيين لفصل الدين عن السياسة .. ما زال الشعب التونسي بعيدا عن التحقق بأهم العناصر الفكرية الضرورية للتقدم، وهي إدراك أهمية بناء نظمه في تناغم مع ثقافته، أما في ما يتعلق بأثر الإسلام على نسق القيم الإجتماعية فيمكننا مثلا أن نجد مؤشرا في الإجابة على السؤال: "هل ترى أن من حق المرأة أن ترتدي ما تشاء من الثياب؟" .. أجاب 56% من التونسيين بالإيجاب، بينما كانت النسبة في مصر 14%، أما من جهة إدراك طبيعة الصراع الحضاري الذي تخوضه أمتنا، وتعريف العدو من الصديق، فيمكن أن تعكسه الإجابة على سؤال: "هل ترتاح لوجود جيران من الأمريكان؟"، فقد أجاب 46% من التونسيين بالإيجاب، بينما كانت النسبة في مصر 10% فقط.
يمكنك أن ترى من هذه العينة من الإجابات، ومن غيرها، أن الشعب التونسي في مجمله ما زال بعيدا عن إدراك أهمية إستعادة منهج الحياة الإسلامية.
حسنا .. ربما بدا لأول وهلة أن التونسيين، وإن كانوا غير متحمسين للإحياء الإسلامي، فإنهم قد يكونون قادرين على بناء تقدمهم على أسس عالمانية (خاصة أن الدراسة قالت أن الأحزاب العالمانية تزداد شعبيتها بين التونسيين في الوقت الذي تتراجع فيه شعبية الأحزاب الأخرى، الأمر الذي أكدته فيما بعد نتائج الإنتخابات البرلمانية)، قد يكون هذا محزنا للإسلاميين، لكنه لا يعني أن تونس لا تستطيع تحقيق نوعا من التقدم المادي .. الواقع أن الأمر ليس كذلك، ففيما يتعلق بالهوية أعلن 56% من التونسيين أنهم يعتبرون أنفسهم مسلمين قبل أن يكونوا تونسيين [!!!!] وهي نسبة قريبة جدا من الحالة المصرية .. إنه تشوش فكري خطير .. هذا شعب لن يتفاعل مع الحلول العالمانية ولن يتمكن من توفير متطلباتها الثقافية (راجع مقال "مأزق العالمانيين") .. لا أعرف كيف أمكن لنظام بورقيبة وبن علي أن يصل بشعبه إلى هذه الدرجة من البلبلة وعدم الوضوح الفكري.
قد يخطر ببالك أن مناخ الديموقراطية وحرية التعبير سيعطي الإسلاميين فرصة أكبر لإصلاح فكري شامل طالما كانت الهوية الثقافية الإسلامية هي المسيطرة، للأسف يبدو أن الأمور لا تسير في هذا الإتجاه، فقد أعلنت حركة النهضة تكريس نفسها للعمل السياسي بعد فصل الدعوي عن السياسي (وهذا فهم خاطيء لدرجة خطيرة لمعنى الفصل التنظيمي بين الدعوي والسياسي، وقد شرحنا الفكرة في عدة مقالات، راجع مثلا "بين الدعوي والسياسي") .. ما يبدو لنا هو أن تونس تمر بنفس الظروف التي سادت مصر عقب ثورة 1919، عندما كان المصريون يعطون 80% من أصواتهم، في إنتخابات حرة نزيهة، لحزب عالماني ليبرالي (الوفد)، لتصبح الديمقراطية مجرد ملهاة يتنافس فيها السياسيون على الحكم، دون أن يكون لهذه المنافسة أي دور في عملية الإنبعاث الحضاري، في إنتظار تأسيس حركة على غرار حركة حسن البنا رضوان الله عليه في 1928، وإلى أن يحدث هذا سيظل العمل الوطني في تونس يراوح مكانه في دائرة مفرغة، مشابهة لما كان عليه الحال في مصر في الحقبة الليبرالية من 1923 إلى 1952، لا هم قادرون على بناء التقدم المادي على أسس عالمانية، ولا هم قادرون على تعبئة الجماهير لمقاومة التبعية وإبداع منهجهم الخاص في التنمية والنهضة.
ما هو الدرس الذي علينا أن نتعلمه في مصر؟ ما إستراتيجية النهضة وما هي أولويات العمل الوطني؟ .. أسئلة مهمة، ولا يمكن لأي جهد فردي أن يقدم إجابات كاملة عليها، لكني سأحاول أن أقدم ما لدي في مقال قادم بإذن الله.
محمد النمر || titocanztitocanz71@gmail.com
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته بارك الله فيكم يا دكتور ونفع بكم ورفع بالعز قدركم وحفظكم من كل سوء وجزاكم الله خيرا على جهودكم المبذولة فى قضية الوعى وأنا متفق مكم تماماً فى طرحكم وفى إنتظار المزيد بإذن الله