درس خطير من تونس: لا تخدعنكم الظواهر

منذ 5 سنة | 2740 مشاهدات

لفترة طويلة أخذت أتأمل التجربة التونسية محاولا إكتشاف السبيل الذي إتبعوه للحفاظ على أهم مكاسب الثورة، الديمقراطية، بينما فشلنا نحن وإنتكست ثورتنا وعدنا لوضع أسوأ مما كنا أيام مبارك .. كانت في عقلي فرضية ضمنية هي أن التونسيين حققوا نجاحا حيث فشلنا، لكني وصلت إلى أن العكس هو الصحيح، ويهدف هذا البحث إلى تأكيد خطأ هذه الفكرة الشائعة: أن الشعب التونسي قد قطع في طريقه إلى الإنبعاث الحضاري شوطا أطول مما قطعه الشعب المصري وصاروا بذلك أقرب منا لبناء مجتمع قادر على عبور فجوة التخلف .. الدرس الذي يجب أن نتعلمه من تونس ليس هو "كيف نتعلم من نجاحهم لنصل إلى ما وصلوا إليه"، بل هو على العكس: "كيف نتعلم من أزمتهم حتى لا نصل إلى ما وصلوا إليه".

          لا يمكننا أن نبدأ التحليل من الصفر، سنطرح عددا من المقدمات يتعامل معها البحث كمسلمات، لكننا ناقشناها وأقمنا ما نعده الأدلة على صحتها من علوم الإجتماع والإقتصاد والتخطيط الإستراتيجي في مقالات سابقة، أهمها هي ما ضمته سلسلة "الإسلام هو الحل".

          المقدمة الأولى: تؤكد خبرات الماضي والحاضر أنه لا يوجد شعب واحد عبر التاريخ تمكن من إقامة بناء حضاري راسخ إلا إذا كان هذا البناء مؤسسا على ثقافته الخاصة وعلى نسق القيم الذي أفرزته هذه الثقافة وغرزته في عقول ووجدان أبنائه، ولم يتمكن أي شعب من تحقيق تقدم يذكر بإستيراد الهياكل والنظم والمؤسسات وأساليب العمل التي تقدمت بها شعوب غيره ممن يحملون ثقافة مختلفة .. إذا أردنا أن نحل مشاكلنا ونعبر فجوة التخلف فلا مناص من إبداع نظمنا وأساليبنا المستمدة من نسقنا الخاص للقيم ورؤيتنا للعالم، والتي، في حالتنا، هي ما غرزه فينا الإسلام عبر قرون عديدة كانت شريعته هي منهج حياتنا.

          المقدمة الثانية: إن الإستعمار الغربي، خلال فترة سيطرته المباشرة على مجتمعاتنا، قد عمل على تحطيم هياكلنا ونظمنا ومؤسساتنا (الإجتماعية والقانونية على الأخص) التي بنيناها عبر تاريخنا لتعكس ذاتنا الثقافية والحضارية، وما لم يستطع تحطيمه عمل على تهميشه وإضعاف دوره في حياتنا (الأزهر أبرز الأمثلة، بعد أن كان هو القيادة الشعبية التي تصدت للحملة الفرنسية أصبح الآن مجرد ديكور في الإحتفالات الدينية، حتى المساجد أصبحت تخص وزارة الأوقاف)، وأقام بدلا منها مجموعة أخرى من الهياكل والنظم والمؤسسات على أسس عالمانية، مصممة خصيصا لترسيخ تبعيتنا له، وعرقلة أي محاولة لإنجاز نهضة حقيقية في أي مجال.

          المقدمة الثالثة: لم يرحل عنا الإستعمار الغربي السافر إلا بعد أن ترك زمام الأمور في أيدي نخب متغربة صنعها على عينه، وهذه النخب تحرص، من باب الإقتناع أحيانا أو من باب العمالة أحيانا أخرى، على الحفاظ على النظم والهياكل التي ورثتها عن الإستعمار، إما ظنا منها أن هذه هي الطريقة المثلى للحاق بالغرب المتقدم، أو إستجابة مباشرة لتعليمات لا يملكون مخالفتها وإلا تم إستبدالهم بغيرهم، وهذه الأوضاع يؤدي إستمرارها إلى بقائنا في حالة تبعية كاملة للغرب، مهما أخفيت عنا هذه التبعية بوسائل تجميل مختلفة، أو تحت أسماء براقة.

          المقدمة الرابعة: القوى الغربية على إستعداد لتقديم بعض التنازلات والتضحية بجزء من الغنائم في سبيل ترسيخ قيادة النخب العالمانية التابعة لها، بشرط ألا يؤدي هذا التنازل إلى صعود الفكرة الإسلامية، فالفكرة الإسلامية إذا تحققت بها شعوبنا فسيؤدي هذا حتما إلى إنعتاقنا من التبعية، فالإسلام إن عاجلا أو آجلا سيفرض على أبنائه إستخدام كل الوسائل وبذل كل التضحيات اللازمة لبناء النهضة المستقلة.

          المقدمة الخامسة: إن جوهر الثورة هو إقتناع الناس بضرورة تغيير مجمل الأوضاع، وإستعدادهم للتضحية في سبيل هذا التغيير، أما الإنفجارات الثورية، كتلك التي أطلقنا عليها "الربيع العربي"، فليست إلا مواقف تترجم الثورة فيها نفسها إلى فعل، وإتمام التغيير الحضاري يلزمه مرات متوالية من هذه الإنفجارات، كل منها تعبر بنا حاجز مرحلي، ونجاح واحدة منها أو إنكسارها ليس هو المؤشر على قدرة هذا الشعب على إحداث التغيير، الأهم هو أن يظل الشعب، نجح إنفجاره أو إنكسر، مدركا للتحدي، وعازما على المضي قدما في إعادة صياغة أوضاعه.

          المقدمة السادسة: قد يفقد الشعب في مرحلة معينة ثقته في طليعته نتيجة عجزها عن قيادته في عبور إحدى العقبات، هذه مشكلة يجب حلها، إما بأن تتدارك الطليعة جوانب القصور في فكرها أو ممارساتها فتعاود إكتساب ثقة جماهيرها، أو بأن يفرز الشعب طليعة جديدة يلتف حولها، لكن المشكلة الحقيقية تظهر عندما يفقد الشعب ثقته في نفسه وفي قدرته على تحقيق آماله، والكارثة هي أن يستسلم تماما لخديعة أن الإلتحاق بالغرب والإندماج في منظومته العولمية هو أفضل الحلول الممكنة.

          إذا كنت مقتنعا بهذه المقدمات فسنمضي قدما في البرهنة على أن الوضع التونسي أشد تأزما من الوضع في مصر، وعلينا أن نتعلم هذا الدرس، ونفهم عوامل أزمتهم، حتى نتدارك شعبنا قبل أن تنهار مناعته بصورة خطيرة كما حدث هناك، أما إذا لم تتفق معي على صحة هذه المقدمات فأرجو أن تراجع سلسلة مقالات "الإسلام هو الحل"، أو أن تتوقف عن القراءة حتى لا تهدر وقتك في غير طائل.

          المقولة التي سنحاول إقامة الأدلة على صحتها في ما يلي من مقالات هي أن الشعب المصري قد قطع شوطا في طريق الإنبعاث الحضاري أبعد مما تم إنجازه في تونس، ففي مصر إحتاجت القوى العولمية لأن تدعم إنقلاب عسكري دموي عنيف أعاد الحالة القمعية إلى ما كانت عليه منذ خمسة عقود، لأن شعب مصر ما كان ليتخلى عن حلمه الإسلامي بغير ذلك (حتى لو قرر التخلي عن قيادة الإخوان، فبدون الإنقلاب كانت الديمقراطية ستفرز قيادة إسلامية بديلة)، أما في تونس فإن الأمر لم يتطلب إلا بعض المناورات السياسية والحيل الإعلامية حتى يعود الشعب لإختيار النخب العالمانية من جديد، غير مدرك أنه بذلك يرسخ تبعيته للغرب ويتنكب طريق النهضة الحضارية الحقيقي.

          لماذا نشغل أنفسنا ونشغلكم بإثبات صحة هذه المقولة؟ .. لأن البحث سيكشف لنا بإذن الله أن ما جرى للشعب التونسي يمكن أن يحدث للشعب المصري، إذا لم نعمل، وبسرعة، على تدارك الوضع، ليس بمحاولة تغيير النظام (سلميا أو بغير ذلك)، فنحن لا نملك شروط إحداث هذا التغيير، وإنما بإعادة صياغة برنامج للعمل يستجيب للدوافع التي ما زالت متجذرة في شعبنا، ويمكنه حشد الناس حول أهداف ومطالب ملموسة، ترتبط في وعيهم بمصالحهم الواقعية والحقيقية .. ولله الأمر من قبل ومن بعد.

Generic placeholder image
صفاء الدسوقى || esafaaeldsoky830@gmail.com

انا معك فيما قلت وكنت ارى ان انتخاب السبسى انقلاب ناعم على الثورة التونسية وان التونسيين انخدعوا

شارك المقال