منذ 7 سنة | 1916 مشاهدات
هذا المقال إستكمال للمقال السابق: موسم نقد الإخوان.
في سنة 2009 كتبت فصلا عن الأحزاب الإسلامية في كتابي "الإسلاميون والديمقراطية" .. كان تحليلا نظريا صرفا لا تسنده أية تجارب عملية يمكن الركون إلى نتائجها، وسأبدأ فيما يلي بأهم الفقرات التي كتبتها وتتعلق بموضوع هذا المقال (بالنص، مع حذف بعض الفقرات والجمل).
قد يبدو أن كل الجماعات الإسلامية ذات الأهداف السياسية، عدا تلك التي تعتمد التغيير باستخدام العنف، يمكنها أن تبادر إلى إعلان نفسها كأحزاب إذا سمح لها بممارسة العمل السياسي .. نحن لا نعتقد أن أغلبها ستتمكن من العمل بكفاءة ما لم تعد النظر في أطروحاتها النظرية وتجري تغييرات عديدة على بنيتها التنظيمية وأسلوبها في اتخاذ القرارات وطريقتها في الاستقطاب والتعبئة الجماهيرية.
إن الحزب هو تنظيم يسعى للوصول إلى السلطة لتحقيق أهداف سياسية، وكل التنظيمات – تجارية أو تعليمية أو سياسية أو رياضية أو في أي مجال – يرتبط نجاحها بإحترامها لمبادئ الإدارة، وواحد من هذه المبادئ الهامة هو أن أهداف المنظمة يجب أن تنعكس في الهيكل، وفي أسلوب العمل، وطريقة شغل المناصب، والمواهب والخبرات التي ينبغي أن تتوفر في القادة .. إلخ، والحزب السياسي ليس إستثناءا.
لقد أثار الكلام في قضية شمول الإسلام تشوشا خطيرا، فتصورت كثير من الحركات الإسلامية أن عليها أن تعمل في كل المجالات الفكرية والسياسية والاجتماعية .. إلخ حتى تكون معبرة تعبيرا صادقا عن شمول الإسلام لكل جوانب الحياة .. علينا أن نتذكر أن هؤلاء الذين تصدوا لطرح هذه الفكرة منذ أوائل القرن العشرين إنما قاموا للدفاع عن الإسلام في وجه الموجة التي نادت بحتمية أن نقتفي أثر الغرب في فصل الدين عن المسائل العامة وحصره في العلاقة بين العبد وربه .. قام هؤلاء ليثبتوا أن الإسلام بالذات لا يمكن فصله عن معاملات الناس وأمورهم الحياتية، وكان هذا أمرا شديد الأهمية في مواجهة محاولات التغريب في حينه، لكننا نحسب أن المشروع الإسلامي قد تجاوز مرحلة إثبات حقه في الحياة، وعليه أن ينتقل الآن إلى مرحلة البحث في الطريقة التي سيمارس بها هذا الحق.
إن شمول الإسلام لكل جوانب الحياة قضية صحيحة وصادقة، لكن الإقرار بها لا يعني أن نتصور أن أي مجموعة من الناس تنتظم في شكل جمعية أو حزب أو جماعة يمكنها أن تتعامل مع كل الجوانب وتصارع في كل الجبهات وتتقدم على كل المحاور .. الحزب الإسلامي لا يعدو إلا أن يكون جماعة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو يظل كذلك حتى يصل إلى السلطة فيشكل حكومة .. التعبير الكامل عن الإسلام لا تستطيعه ولا حتى الدولة بكامل سلطاتها وأجهزتها وهيئاتها، ولابد أن تقوم منظمات المجتمع المدني المستقلة بتحمل مسئولية جوانب عديدة كلها لازم وضروري.
فجماعة المسلمين الأولى بقيادة الرسول (ص) لم تنشغل – قبل أن يكون لها دولة – إلا بعمليات الدعوة إلى الإسلام، وتعليم المسلمين الجدد أمر دينهم، والحفاظ على وجود هذه الجماعة من خلال تنمية علاقات التكافل والتكاتف والرعاية المتبادلة بين أعضائها، فلما صارت للمسلمين دولة تحكمها سلطة إسلامية في المدينة تصدت هذه الدولة لقيادة جوانب الحياة دون أن تتحمل بكل التفاصيل التي تركت الكثير منها لمبادرات الأفراد والمجموعات العديدة التي قامت فعلا بمهام أبعد مما ألزمت الدولة به نفسها.
وقد وعت حضارتنا في فترات ازدهارها أهمية العلاقة بين الوظيفة الاجتماعية وبين الشكل الذي ينتظم فيه هؤلاء الراغبون في القيام بهذه الوظيفة، فكان لمدارس العلم الشرعي التي تطورت إلى المذاهب الفقهية مناهجها وأسلوب عملها الذي اختلف بصورة جذرية عن التشكيلات التي تبنتها الطرق الصوفية، وبالذات تلك الطرق التي عملت على نشر الإسلام في البلاد التي لم تخضع أبدا لدولة الخلافة، وهي التي أدخلت إلى الإسلام عددا يساوي أو يزيد عما أدخله الدعاة الذين عملوا داخل حدود الدولة، أما الأنشطة التطوعية في المجال الاجتماعي – التعليم والرعاية الصحية وكفالة الأيتام ومساعدة الفقراء .. إلخ – فقد تطورت – بعيدا عن الدولة وأجهزتها - استنادا إلى نظام الوقف العبقري الذي أفرزته حضارتنا والذي استطاع أن يقدم ما لم تعرفه أوروبا إلا بعدها بعدة قرون.
نحن لا نعتقد أن هناك أي تعارض بين الإسلام والسياسة، ولكننا مقتنعون بأن هناك تعارضا مؤكدا بين الأهداف وأساليب العمل التي يتبناها الحزب الإسلامي والأهداف وأساليب العمل التي تتبناها جمعية خيرية أو جماعة للدعوة الإسلامية، وعلماء الإدارة يؤكدون دائما على أن تغير الأهداف يجب أن يستتبعه تغير في البنية التنظيمية وفي طرق العمل، بل أن نفس المنظمة إذا استمرت في تبني ذات الأهداف ولكن غيرت إستراتيجيتها، فإن هذا سيتطلب منها غالبا تعديلات جذرية في بنيتها وفي أساليبها، بل قد يتطلب تغيير فريق القيادة العليا أو جزء كبير منه .. هل تعتقد أن الحزب الإسلامي وجمعية الدعوة الإسلامية يتبنيان نفس الأهداف؟ .. نحن لا نوافقك على ذلك، ودعنا ننظر إلى الفرق:
الدعوة إلى الإسلام عمل يركز على القضايا الفكرية بالدرجة الأولى، ويستخدم في خطابه حوادث التاريخ الماضي لضرب المثل وللعظة والاعتبار، ويبتعد عادة عن الأحداث المعاصرة، فالخلاف حول الأحداث القريبة قد يبتعد بالداعية عن هدفه، وتناول الأحداث الجارية يجعله طرفا في الصراع، لذلك نلاحظ دوما في خطاب الدعاة والوعاظ نزعة إلى الكلام عن الماضي وعن أحداث التراث بدرجة ملحوظة، وليس هذا قصورا منهم في الفهم أو تجاهلا لأهمية القضايا المعاصرة، ولكنه على الأرجح وعي كامل بأهمية الابتعاد عن مواطن الصراع الحالية عندما يكون الهدف هو الدعوة إلى القيم العليا والمبادئ العامة .. ومهمة الداعية هي إقناع جمهوره بأهمية الارتباط بالمرجعية الإسلامية، لكنه يعتبر كل الآراء الفقهية سواء، ولا مانع عنده من أن تتعدد إختيارات أتباعه، بل تجد الداعية الناجح يجيب على أسئلة مريديه إجابات تعرض آراء المذاهب كلها ويحرص على أن يدع لكل واحد حرية إختيار الرأي الذي يرتاح إليه، وهو يفخر بهذه الخاصية التي يتفرد بها الإسلام ويستخدمها في تأكيد تفوق الفكر الإسلامي .. وفي النهاية: لا يحاول الداعية إحراج جمهوره بأية إلتزامات، إنه يلقي دروسه ومحاضراته ثم يأمل في أن المستمعين سيلتزمون في حياتهم بالمواقف الإسلامية إلتزاما طوعيا، كل منهم حسب الرأي الفقهي الذي يختاره لنفسه بحرية كاملة .. لكن المنظم السياسي يسير عكس الإتجاه في كل ما سبق: فهو يعتبر المسائل الفكرية مهمة فقط بالنسبة للكوادر الحزبية، أما الجمهور فلا يثقل عليه بها كثيرا، لكنه يتحدث في القضايا الحالية العملية وفي الحلول التي يقترحها الحزب، وإذا أثار البعض قضايا ومشاكل من أحداث التاريخ فإنه يلجأ إلى صرف نظر جمهوره عنها بكل الطرق، باعتبارها مسائل كانت لوقتها، أما نحن فعلينا أن نواجه مشاكل وقتنا، وإذا طرأت أية مشكلة جديدة فإن الحزب – إذا تحلت قياداته بروح الشورى الحقة – سيلجأ إلى إدارة حوار واسع ليعرض كل الأعضاء آراءهم قبل أن يتم أخذ الأصوات، لكن في النهاية يجب الوصول إلى رأي واحد يكون هو رأي الحزب المعلن الذي يلتزم كل الأعضاء بتبنيه والدفاع عنه والترويج له .. وهكذا.
أما النقطة الأكثر جوهرية فهي أن الدعوة إلى الإسلام تهدف إلى إقناع جمهورها بصدق رسالته وصحة نسبتها إلى الله، ولن ينضم إلى جمعية الدعوة إلا مسلم يبتغي ما عند الله، أما الدعاية التي يقوم بها الحزب الإسلامي فتهدف إلى إقناع جمهوره بجدوى الحلول التي يقدمها لمشاكل الدنيا بغض النظر عن رأي هذا الجمهور في المصدر الذي استوحيت منه هذه الحلول، والحزب يأمل في أن يتبعه كل من يقتنع بقدرة حلوله على قيادة الوطن إلى الأفضل ويرغب في الحصول على أصواتهم، ويتوجه ببرنامجه حتى إلى هؤلاء الذين لا يعترفون بأن المرجعية التي اشتقت منها هذه الأفكار تنتسب إلى أي مصدر إلهي ويطلب دعمهم له.
هذا هو ما كتبته منذ ثمان سنوات، والتوصية التي وصلت إليها كانت أن تقوم الجماعات الإسلامية بتعديل هيكلها التنظيمي وطرق عملها مع الجماهير، وربما قياداتها، إذا أرادت أن تنخرط في المنافسة الديمقراطية على الحكم .. اليوم، وبعد كل ما مر بالتجربة الديمقراطية المصرية، فإني ما زلت مقتنعا بسلامة التحليل، لكن إذا أضفنا خبرتنا العملية من يناير 2011 حتى يوليو 2013 إلى مقدمات هذا التحليل فإن النتائج – في رأيي – لابد أن تتغير، سنناقش هذا بإذن الله في مقال قادم.