منذ 7 سنة | 4016 مشاهدات
المشكلة التي تواجه كل من يريد إستنساخ تجارب الآخرين عندنا هي أنه يجد عند هؤلاء الآخرين أسسا قيمية وأخلاقية ومجموعة من قواعد السلوك يرتكز عليها برنامجهم للنهضة ولا يمكن نجاحه بدونها، بينما تفتقر بيئتنا الثقافية لهذه الأسس، فينظر إليها على انها بيئة ثقافية متخلفة، أو فاسدة تماما، ويعيش حالة من الحيرة والإرتباك في البحث عن طريقة لتغيير هذه الثقافة، ويعتبر هذه القضية من المهام الأساسية لعملية النهضة، بينما يرى الإسلاميون أن الأمر هو على العكس من ذلك تماما، إذ يؤمنون أن تعاليم الإسلام تحوي كل ما نحتاجه لمواجهة مشاكلنا، ويعتقدون أن المطلوب هو إزالة الصدأ عن منظومتنا الخاصة من القيم والمبادئ، وإحياء الممارسات المجتمعية التقليدية والمتجذرة في وجدان شعوبنا، وصبغها بصبغة معاصرة تستجيب للتحديات المستجدة وتستفيد من التطورات الحديثة، كشرط ضروري لمرحلة الإقلاع الحضاري، الثقافي والمادي.
لا تدرك نخبنا ذات الثقافة العالمانية، بشقيها الليبرالي واليساري، المأزق الذي عليها أن تعبره إذا أرادت تحقيق نهضة شعبنا على أسس مستمدة من نهضة الغرب، وهو في نظرنا مأزق ثلاثي الأبعاد:
البعد الأول: إن تغيير ثقافة شعب من الشعوب عملية شاقة ومركبة ومعقدة، فالناس لا تغير قيمها ومعاييرها الأخلاقية وأساليبها في التعامل لمجرد أن مجموعة من المثقفين تنصحها بذلك، عليك أولا أن تقنعهم بفساد العقائد والأفكار والتصورات التي يستمدون منها معاييرهم، ثم أن تثبت لهم أن ما تنصحهم بتبنيه أرقى وأفضل مما هم عليه، ثم لابد أن تنقضي فترة طويلة قبل أن تتحول الأفكار والتصورات الجديدة إلى قيم وعادات وأخلاق، والأهم: أن يقوم الناس بتعديل قواعد السلوك السائدة بينهم لتتناغم مع الثقافة الجديدة (تطلب تحول المصريين إلى الثقافة الاسلامية حوالي ثلاثة قرون كاملة).
البعد الثاني: سيشعر قادة التغيير الثقافي خلال فترة التغيير بالاغتراب عن جماهيرهم، وإذا كانوا يؤمنون إيمانا راسخا بصحة ما يدعون إليه فسيتحملون هذا الشعور، لكن المشكلة هي أن الجماهير لن تتجاوب مع خططهم ولن تتبناها بإخلاص قبل أن يتم تغيير ثقافتها فعلا، وهذا على العكس تماما من حاله القادة الذين يطلبون إعمال ذات القيم التي تحترمها الجماهير بالفعل، ويطلبون منها القيام بأعمال تعد عندها أخلاقية ومفيدة ومرغوب فيها، ويقدمون لذلك أسبابا ودوافع تتفق تماما مع الحكمة التقليدية المعتبرة لدى هذه الجماهير .. في الحالة الثانية ستشعر الجماهير أن هؤلاء القادة هم طليعتها المنبثقة منها والمتجاوبة مع وجدانها .. سيرون أن ما تطالبهم به القيادة هو فعلا ما ينبغي عليهم القيام به.
البعد الثالث: إن المهمة الأولى في مسار النهضة المادية هي رفع المستوى العلمي للكوادر التي ستقود الاقتصاد والصناعة ..إلخ، وخطط العالمانيين للنهضة ستقتضي إيفاد أبنائنا المتفوقين، بعد أن يتم غرس القيم الثقافية الغربية فيهم، إلى الغرب لاستكمال تلقي العلم على أمل أن يعودوا ويتولوا قيادة النهضة .. لكن المجتمع الأمريكي هو مجتمع من المهاجرين يمكنه بسهوله أن يستوعب فيه كل القادمين الجدد، ولن يمنع أبناءنا من الاندماج فيه إلا إحساسهم بالغربة الثقافية، ولكن نخبنا العالمانية ستكون قد أضعفت الفوارق الثقافية لدى من ترسلهم، لن يشعروا بوحشة الغربة، ولن يكون لديهم حافز حقيقي للعودة إلى مجتمعهم الذي باتوا ينفرون من ثقافته، لن يمكنهم مقاومة الاغراءات التي ستقدم للمتفوقين منهم، وإذا كنا نشكو الآن من أن 40% من دارسينا في الغرب لم يعودوا، فإن التغريب الثقافي سيزيد من هذه النسبة .. لا يمكن التقليل من خطورة هذه المشكلة، فالانتماء إلى نسق ثقافي مختلف، والشعور بالغربة رغم كل الرفاهية المادية وإغراءتها، هو الذي أعاد المهندسين اليابانيين في مطلع القرن العشرين، وهو الذي فعل الشيء نفسه مع علماء الذرة الإيرانيين في نهايته، وهو الذي سيعيد إلينا بإذن الله شبابنا المسلم الذي سنوفده ليأتي لنا بثمار التقدم العلمي في النصف الأول من القرن الواحد والعشرين.
سنقوم في المقالات التالية بإذن الله باستعراض أهم نماذج النجاح خارج المجتمعات الغربية، عسى أن يتضح لعالمانيينا أن مجتمعا واحدا لم يتقدم إلا من خلال نموذج يحترم خصوصياته الثقافية.