الرئيس وشعبه والدولة العميقة

منذ 5 سنة | 1782 مشاهدات

واجهت كل الثورات وحركات التغيير الكبرى نفس المشكلة التي واجهت الدكتور محمد مرسي، وهي أنه لا يمكن الإعتماد على أجهزة الدولة القديمة في عملية التغيير، فهذه الأجهزة قد صممت هياكلها، وأختيرت قياداتها، ووضعت أساليب العمل فيها وإجراءاته، لخدمة والحفاظ على النظام الذي قامت الثورة أساسا ضده، ولذلك فإن كل الثورات الكبرى في العصر الحديث، الفرنسية والأمريكية والروسية والصينية، والإيرانية إلى حد ما، إتبعت سياسة "إنسف حمامك القديم"، وأعادت بناء أجهزة الدولة كلها على أسس مختلفة وبقيادات جديدة.

          أما حركات التغيير التي لم تكن لها هذه الدرجة من التوجهات الجذرية، أو لم تمتلك الزخم الكافي لبناء كل الأجهزة من الصفر، فقد ادركت أنه لا مناص من الإعتماد على الجماهير الشعبية، فهذه الجماهير هي السند الرئيسي، إن لم يكن الوحيد، الذي يملكه النظام الجديد في مرحلة إعادة هيكلة أجهزة الدولة حتى تتقبل التغيير وتستجيب له، وحتى تكسب القيادة الجماهير إلى صفها كي تضغط معها على الأجهزة القديمة والعاملين فيها وترغمها على التعاون مع النظام الجديد فإن الأمر يتطلب إجراءا عمليا على الأرض يحمل خصيصتين لا غناء عنهما، أولهما: أن يكون باعثا للأمل في قلوب أوسع الفئات الشعبية بأنه سيحقق الآمال التي عارضها النظام القديم، وثانيهما: أن يكون قادرا على تحقيق بعض الإنجازات الفعلية التي تشعر بها الجماهير بسرعة، حتى تستجيب للقيادة وتمنحها الثقة عندما تطالب بتقديم بعض التضحيات وتحمل بعض المشاق في سبيل تحقيق الأهداف الأكبر، وتفيض بعض أدبيات تخطيط التنمية في شرح أهمية هاتان النقطتان حتى عندما تريد نفس القيادة تبني إستراتيجية جديدة للتنمية.

          و لدينا في مصر تجربة  تصلح شاهدا على صحتها.

          في 9 سبتمبر سنة 1952، بعد ستة أسابيع فقط من إستيلاء الضباط الأحرار على السلطة، أعلنوا قانون الإصلاح الزراعي، وهو قانون لا علاقة له بالإشتراكية، فتصفية طبقة كبار ملاك الأراضي وتوزيع أراضيهم على الفلاحين كانت وصفة أمريكية دعت لتطبيقها في دول أمريكا اللاتينية، لدرجة أن هنري كورييل، مؤسس تنظيم "حدتو" الشيوعي المصري، كتب في مذكراته أنه كان على يقين من أن هذا القانون كان بتوصية من الأمريكان، وأبدى تعجبه من مشاركة أحد اليساريين المصريين في صياغته، المهم أنه لم يكن لدى الضباط أية إمكانية لتنفيذ هذا القانون عندما أصدروه، فقد إستغرق إستكمال البنية التشريعية وبناء الأجهزة الإدارية وإتخاذ الخطوات الإجرائية حوالي خمس سنوات، ولكنهم إستعجلوا في إعلانه إدراكا منهم، أو من الذين كانوا يوجهون حركتهم، أنهم كانوا يفتقرون إلى القاعدة الشعبية والظهير السياسي (رغم إمتلاكهم لأدوات القوة المادية)، وإذا كانوا يرغبون في التنصل من وعدهم بالإنسحاب وترك الحكم للسياسيين فإن عليهم أن يبادروا إلى بناء قاعدتهم الشعبية الخاصة التي يستطيعون الإستناد عليها في بناء تنظيمهم السياسي ليحكموا البلاد .. كان هذا القانون إعلانا بإنحيازهم للطبقات الشعبية المحرومة، لضمان تأييدها عندما يبدأ الصراع على السلطة مع التنظيمات السياسية والأحزاب الجماهيرية ذات الشعبية العريضة.

          لقد كان لدى الرئيس مشروع رائع (تنمية إقليم قناة السويس، راجع مقالنا: "مشروعان لقناة السويس")، لكن يبدو أنه قد تعفف عن إستغلاله إعلاميا، ولم يكن موفقا في ذلك، فقد كان المشروع يمتلك من عوامل الجاذبية ما يفوق بمراحل مشروع التفريعة، وبدلا من أن يهتم القائمون على المشروع بشرح أهميته وجدواه للشعب، ويبحثون عن طريقة لمشاركة الرأي العام في التفكير والتنفيذ، توجهوا بخطابهم في محاولة لتسويق المشروع لرجال الأعمال بإعتباره فرصة إستثمارية .. ليس هذا المشروع هو المناسبة الوحيدة التي تستشف منها أن الرئيس ورجاله لم يدركوا أهمية إنخراط أوسع فئات الشعب في بناء النظام الجديد، فهو في برنامجه لم يتحدث عن الحكم المحلي الذي ينقل قدرا من السلطة الحقيقية للمحليات، وإنما تحدث عن الإدارة المحلية، وحتى هذه الإدارة تراخى في إصدار القانون الذي يعيد تنظيمها ويشرك الشعب في تسيير الأمور، مع أنه كان يملك كل السلطة التشريعية في غياب البرلمان .. لا أجد داعيا للإستمرار في التدليل على هذه النقطة، فما زلنا نذكر كيف أن الرئيس، عندما تأزمت أموره مع الدولة العميقة، لم يكتف فقط بعدم مصارحة الشعب بالوضع الحقيقي لحكومة الثورة، بل أكد في آخر خطاب علني له أن ركائز هذه الدولة بالذات هم "رجال من ذهب" .. ربما كان الرئيس يراهن على إمكانية كسب تعاون رجال النظام السابق ليكونوا هم رجاله (ولا أريد أن أحمل الرئيس وحده هذه المسئولية، فيبدو أن هذه كانت وجهة نظر كل قيادة الإخوان) .. هذا أمر يدعو للأسف، لكن لا جدوى من البكاء على اللبن المسكوب .. المطلوب الآن أن تعيد حركة الإحياء الإسلامي النظر في طبيعة الأهداف العملية للحل الإسلامي الذي تدعو الناس إليه، وأن تفكر بعمق في الدور المطلوب من الجماهير في تحقيق هذه الأهداف، والعائد الدنيوي الذي سيشعر به الناس عندما يترسخ نظام إسلامي في مصر .. هذا هو ما نرجو أن يكون موضوع المقال التالي الذي نختم به هذه السلسلة بإذن الله.

شارك المقال