منذ 7 سنة | 1511 مشاهدات
تعرضنا في مقالات سابقة للإشكالية التي واجهت جماعة الإخوان المسلمين بعد ما بدا أنه انتصار لثورة الشعب المصري في 11 فبراير 2011 والبدء في التحول الديمقراطي، فمن جهة مازالت الحركة الإسلامية في حاجة لاستمرار العمل الدعوي، ومن جهة أخرى لن تتمكن الدعوة من بلوغ أهدافها إلا من خلال العمل السياسي الذي لابد لممارسته من وجود كيانات سياسية تسعى لتسلم السلطة واستخدامها في إنجاز الخطوات الضرورية للتغيير، وكان قرار الجماعة هو إنشاء حزبها المعبر عنها "الحرية والعدالة" .. المشكلة التي بدت لنا واضحة وقتها وغفلت قيادة الجماعة عن إدراك أهميتها هي: أن دعوة الإخوان المسلمين لا يمكن، ولا يجوز، أن يعبر عنها حزب سياسي واحد.
لقد كانت مأثرة الشهيد حسن البنا الكبرى هي أنه لم يكتف بإدراك واجب وقته، وإنما عرف أيضا الطريق للقيام بهذا الواجب، فإذا كان غيره من العاملين للإسلام قد وصلوا مثله إلى أن الأولوية الملحة بعد سقوط الخلافة هي الدفاع عن هوية الأمة واستعادة حقها في أن تعيش طبقا للمرجعية الإسلامية وقاموا بجهد فكري كبير في هذا الاتجاه، فإن البنا وحده هو الذي أدرك أن الطريق لابد أن يمر عبر حشد الجماهير خلف هذه المهمة من خلال تنظيمها في جماعة متماسكة ومنضبطة تقوم بتثقيفها وتربيتها وتوجيهها للعمل اليومي الإيجابي الدؤوب، وأن هذه الجماعة ينبغي لها أن تكون من نمط يختلف عن كل التنظيمات الأخرى المعروفة، كلأحزاب والجمعيات والطرق الصوفية وغيرها، تأخذ من كل واحدة منها ما تحتاجه من طرق العمل وأشكال التنظيم لتعيد صهره في كيان جامع يتمحور حول واجب الوقت، ويتجنب كل ما يشتت جهده ويصرفه إلى مسارب أخرى، وأكد على الشعار الرائع الذي رفعه الشيخ رشيد رضا "نتعاون فيما اتفقنا فيه، يعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه"، ومما هو جدير بالذكر في هذا السياق أن الأستاذ أحمد حسين رحمه الله، زعيم مصر الفتاة، رأى أن وحدة الهدف تقتضي إندماج التنظيمين، وعرض هذه الفكرة على البنا، لكنه لم يقبلها، واعتذر بأن مصر الفتاة هي حزب سياسي أما الإخوان فجماعة دعوة، والأجدى هو استمرار التنسيق والتعاون مع بقاء الاستقلال التنظيمي لكل منهما، وقد روى لي هذه الواقعة بعض شيوخ مصر الفتاة، وبدا أنها خلفت لديهم شعورا بالمرارة، لكني وجدتها تعبر عن إدراك البنا رحمه الله، قبل أدبيات علوم الإدارة بعدة عقود، أن وحدة الهدف مع اختلاف الاستراتيجيات تتطلب اختلاف في طرق التنظيم ووسائل العمل.
وعلى هذا الأساس تشكلت جماعة الإخوان المسلمين ونجحت في أن تجمع أعدادا هائلة من الأعضاء على هدف استعادة المرجعية الإسلامية لتحكم الحياة .. هدف شديد العمومية، لا يحدد الوسائل ولا الخطوات المرحلية لقيام الدولة الإسلامية المعاصرة، بل إنه حتى لا يرسم صورة واضحة لهذة الدولة المنشودة .. وفي بداية تعرفي على فكر الإخوان في السبعينات رأيت في هذا الأمر قصورا منهجيا كبيرا، حتى التقيت عام 1981، أثناء إقامتي في الولايات المتحدة لاستكمال دراساتي العليا، بواحد من أساتذة الاقتصاد حاصل على الدكتوراه من جامعة السوربون، فواجهته بهذا النقد، مؤكدا على أني كمتخصص في التخطيط الاستراتيجي لا أعرف كيف سيمكنكم الوصول إلى هدفكم دون أن تكون لديكم صورة عملية لهذا الهدف تصف ما تريدون تحقيقه على أرض الواقع، وأعطاني الأستاذ الفاضل، الذي لم ألتق به بعد ذلك ولا مرة، ساعتين كاملتين من وقته ليشرح لي ما سأوجزه في السطور التالية ..
قال: إنضممت للإخوان المسلمين عام 1948 ولم أتم بعد دراستي الثانوية، وكانت المعركة التي انتصب لها الجيل المؤسس هي إنقاذ الفكرة الإسلامية من الذوبان تحت ضغط الغزوة التغريبية العارمة، وقد انتصر هذا الجيل في معركته، أما جيلنا – يتحدث عن نفسه – فقد كانت معركته هي إثبات حق الإسلام في حكم حياة المسلمين، وأظن أننا انتصرنا فعلا أو كدنا نحقق النصر في هذه المعركة، أما إقامة الدولة وتحقيق حكم الإسلام فهو معركة الجيل القادم، ومعاركنا لم تكن تتطلب الدخول في تفاصيل لسنا في حاجة لتحديدها الآن، فالعمومية هنا، وعدم الخوض في تحديد الوسائل والنظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كانت أمرا مرغوبا فيه، أولا: حتى لا نضطر، دون مبرر، لمناقشة مسائل قد نختلف بشأنها، وثانيا: لأن هذه تفاصيل مرتبطة بالواقع وملابساته، وليس من الحكمة تكبيل دعوتنا بأفكار نابعة من واقعنا نحن بينما مرحلة التطبيق قد تحمل معها مستجدات أخرى (ولعل مما يوضح كلامة هو إعلان الجماعة في 1994 قبولها للتعددية الحزبية رغم أن البنا رحمه الله كان يرفضها في الأربعينيات)، فلنترك لجيل "التمكين" القيام بهذه المهمة.
كان هذا كلاما عاقلا ومتزنا، ولم أجد وقتها أي اعتراض عليه ، لكني لما أمعنت التفكير فيه وصلت إلى أن الموضوع أكثر تركيبا، ولم تتح لي فرصة مناقشة ملاحظاتي مع الأستاذ الفاضل، لكنها هي نفسها التي قادتني بعد ثورة يناير إلى الوصول إلى نتيجة: إن دعوة الإخوان بصيغتها الحالية (الفضفاضة شديدة العمومية من وجهة نظر سياسية، لكنها بالطبع ملائمة بامتياز لحركة تغيير إجتماعي) من الضروري أن تستمر في أداء دورها لحين تحول المجتمع بالكامل، أو بأغلبية قادرة على الضغط للتغيير من أسفل، إلى تبني نسق القيم ومعايير السلوك الإسلامية، أما العمل السياسي الذي تحتاجه هذه الدعوة فلا يمكن لأي حزب واحد أن يقوم به، وشرح ذلك نتركه للمقال القادم.
مقالات سابقة مرتبطة بالموضوع: