مميش سهران للصبح علشان الكراكات

منذ 6 سنة | 2163 مشاهدات

مازالت صحيفة الأهرام تطالعنا بالأخبار التي تبدو في ظاهرها عادية وبريئة لكنك إذا تمعنت فيها بجدية لثوان قليلة اكتشفت كم هي طريفة وتخفي في طياتها الكثير من التفاصيل المثيرة.

            في صفحتها الثالثة – صفحة أولى داخلية – يوم الخميس 16 أكتوبر، وتحت مانشيت كبير بعرض ثلثي الصفحة يقول "لاختيار الأفضل والأقل سعرا – مميش يواصل مفاوضاته مع التحالفات الأربعة المتقدمة لأعمال التكريك بالقناة"، يذكر الخبر في متنه أن المفاوضات استمرت للساعات الأولى من صباح الأمس، ومن المنتظر اختيار تحالفين منهم خلال اليومين القادمين، وكل تحالف يضم نحو ثلاث شركات عالمية منها هولندية وصينية، وأن الأعمال التي يتم التفاوض بشأنها هي حوالي 250 مليون متر مكعب، موضحا أن توفير نصف دولار فقط (أربعة جنيهات مصرية) سيوفر مليار جنيه مصري، وأضاف أن العمل سيحتاج إلى 29 كراكة كي ينتهي العمل في 9 شهور.

            لأول وهلة يستدعي الخبر إلى الذاكرة ذلك المشهد المضحك الذي دار يوم الإعلان عن المشروع بين اللواء الهندسي والمشير السيسي، عندما قال اللواء الهندسي أن الشركات العالمية قالت أن المشروع يحتاج إلى خمسة سنوات لتنفيذه، ثم دق على صدره وأعلن: لكننا سننفذه في ثلاث سنوات فقط (لم يقل "ببركة الست أم هاشم")، ومع ذلك أصدر له رئيسه أمرا بتحقيق إعجاز هندسي بإتمام الحفر في سنة واحدة فقط .. هكذا قرر بالفكاكة .. فإذا بهم الآن يتفاوضون مع الشركات العالمية – ذات نفسها التي قالت أن المشروع يحتاج لخمسة سنوات – كي تقوم بإنجاره في 9 شهور فقط .. أين ذهبت القدرات الفذة للقوات المسلحة التي كانت ستحقق إعجازا فريدا بحفره في سنة واحدة؟؟

            لاحظ أن المطلوب الآن من شركات التكريك هو حفر 250 مليون متر مكعب في 9 شهور، بينما المشروع كله لا يشمل إلا على 258 مليون متر مكعب!!! .. يعني خلال ثلاثة شهور من الحفر على الناشف لم ينجزوا إلا 8 ملايين مترمكعب فقط، بهذا المعدل كان المشروع سينتهي في خمس سنوات لو لم تظهر المياه .. عجبي.

            ولعلك لاحظت أيضا أنهم يحاولون تخفيض قيمة العقد بحوالي مليار جنيه أو أكثر، ربنا يوفقهم .. لكن ألا يجعلك هذا تتساءل عن قيمة العقد الذي يمكن تخفيضه بهذا المبلغ المهول؟؟ .. لابد أنه يتجاوز عشرة مليارات، والأرجح أنه يزيد عن ذلك، ما هي تكلفة حفر التفريعة كلها "على الناشف" بدون المياه الجوفية؟ .. لم يقولوا لنا، لكننا نعرف كيف نحسبها.

            نحن ندفع فعلا لمقاول الحفر في الرمال في مشروعات الإسكان بضواحي القاهرة من 12 إلى 15 جنيه للمتر المكعب، والمفروض أن الحفر في الأرض المنبسطة ودون تحديد جوانب للأساسات سيكون أرخص، لكن دعنا نقول أن الحفر في التفريعة سيتم بنفس أسعار الحفر في أساسات العمارات السكنية، إن حفر 258 مليون متر مكعب بسعر المتر 15 جنيه هو 3.87 مليار جنيه، قارن هذا بمبلغ 60 مليار الذي طلبوه للمشروع .. أين كان سيذهب الفرق يا ترى؟

            لنترك مشكلة هذه الستين مليارا المثيرة للعجب، وتعال نتساءل: "ما الذي يضطرنا إلى أن ندفع لشركات الحفر بالتكريك أضعاف تكلفة الحفر الجاف"؟ .. ليست هناك أي ضرورة فنية ولا إقتصادية لنستمر في الحفر في       ذات المسار الذي ظهرت فيه المياه الجوفية .. لماذا لا نجري إختبارات للتربة في مناطق أبعد عن الممر الملاحي الحالي بحثا عن مسار لا تظهر فيه المياه الجوفية، فهذه المياه هي رشح من القناة الحالية وإذا ابتعدنا بالقدر الكافي فسنجد بالتأكيد منطقة تخلو من المياه الجوفية ليتم الحفر فيها على الناشف، وهذا له ميزتين في منتهى الأهمية، الأولى هي خفض التكلفة بعدة مليارات من الجنيهات (كل ما تم حفره حتى الآن لا يتجاوز تكلفته بأي حال 120 مليون جنيه)، والميزة الثانية هي أن العمل ستقوم به شركات مصرية، أي أن ما ندفعه سيظل في أيدي مصرية تعيد استثماره هنا بدلا من أن يذهب إلى الخارج مع الشركات العالمية أصحاب الكركات.

            ربما يقولون أننا في عجلة من أمرنا ولا وقت عندنا للإنتظار ثلاثة أو أربعة أشهر ريثما تتم أبحاث التربة .. لماذا أنتم في عجلة من أمركم؟ .. من أين جئتم بهذا الكلام؟ .. هل سمع أحد عن سفينة اضطرت للدوران حول رأس الرجاء الصالح لأنها لم تستطع المرور من قناة السويس؟ .. ما نعرفه أن المعدل اليومي خلال العام المنصرم كان 49 سفينة في اليوم، بينما قدرة القناة بوضعها الحالي هي 76 سفينة في اليوم، ومعدل الزيادة السنوية في حجم التجارة الدولية لا يزيد عن 5 % سنويا، أي أنه لا توجد لدينا أية مشكلة لمدة حوالي سبعة أعوام قادمة .. لقد ذكرنا هذا الكلام في بحث سابق ولم يتفضل أحد بالرد علينا ..

            أضف إلى ذلك أن الحكيم هو من يتغظ بأخطائه، وقد شرعتم في العمل دون إختبار التربة فظهرت لكم المياه الجوفية التي لم تكونوا تتوقعونها .. أرجو ألا تفكروا بمنطق أنه ما دام المريض قد مات فلا داعي لاستدعاء الطبيب .. نستحلفكم بالله أن تقوموا بعمل اختبارات للتربة حتى لو أصررتم على الاستمرار في هذا المسار الغبي، فأنتم تتعاقدون مع شركات التكريك على الحفر في تربة مشبعة بالمياه، لكن عندما يكون الحفر لعمق 24 مترا فليست المياه الجوفية هي المشكلة الوحيدة، ربما سيكون المطلوب الحفر في طبقاتا صخرية مغمورة في المياه، وساعتها لابد أن يطلب المقاول زيادة السعر .. هذه أموالنا التي تبعثرونها بدون دراسة.

            ثم هناك نقطة أخرى ينبغي أن نلفت النظر إليها لأنها قد تنسف المشروع من أساسه، إن الإتجاه العالمي في النقل البحري الآن هو بناء السفن العملاقة التي تزيد حمولتها على 300 الف طن، ذلك أن تكلفة نقل الطن تنخفض بزيادة حمولة السفينة، خاصة بعد إزدياد أسعار الوقود في السنوات الأخيرة، وهذا الإتجاه يؤدي إلى أن تتخصص السفن العملاقة في النقل الطويل – وهو الذي يمر في قناة السويس – ويقتصر عمل السفن متوسطة الحمولة على الرحلات القصيرة بين الموانئ الصغيرة – أي لن يحتاج أغلبها للقناة – واستخدام السفن العملاقة سيؤدي إلى انخفاض عدد الرحلات لنقل ذات الحمولة، أي أن عدد السفن التي ستحتاج للمرور في القناة سيقل ولن يزيد، والأخطر هو أن القناة حاليا لا تسمح بمرور هذه السفن (حتى بعد التفريعة)، فهي تحتاج لغاطس أكبر، ولعرض أكبر للممر، ولتدعيم الجوانب لتتحمل التيارات المائية العالية التي يسببها سير سفن عملاقة .. إذا صح هذا الكلام فإن المطلوب لن يكون عمل تفريعة لزيادة عدد السفن ولكن زيادة عرض الممر الحالي وتعميقه وتدعيم جوانبه ليسمح بمرور السفن التي تتراوح حمولتها من 300 الف طن الى نصف مليون طن .. ألا هل بلغت؟؟

            صحيح: قد جعل الله لكل شيء دواء، إلا الحماقة أعيت من يداويها ..

شارك المقال