منذ 5 ايام | 1181 مشاهدات
تبدأ صياغة الإستراتيجية بما يسمى "التحليل الرباعي"، إستكشاف نقاط القوة والضعف في الداخل، والفرص والتهديدات التي تأتي من الخارج، وقد عرضنا – بقدر ما سمح الحال = لأغلب المسائل التي يحتاجها التحليل لصياغة إستراتيجية لتحرير فلسطين، وهي أفكار موضوعية يمكن أن يقبلها أي محلل منصف محايد، لكن القضية التي نعرضها هنا يتعذر على من يقف خارج المنظومة الفكرية الإسلامية أن يتعامل معها، لكنها أهم عناصر القوة الفلسطينية، إنها النموذج الإدراكي للعقل المسلم، طريقته الخاصة في فهم العالم وتحديد الأولويات وتقبل التضحيات وتعريف الأصدقاء والأعداء .. إلخ، والتي أعانته على التعايش مع حالة الحصار قبل الطوفان، ثم الصمود في مواجهة آلة الحرب الصهيونية، ثم دفعته للعودة إلى الشمال فور وقف إطلاق النار، وهي نفسها التي نرجو، بإذن اله، أن تعينه على إفشال مؤامرة الإستسلام مقابل الإعمار.
لنبدأ أولا بالكلام عن "النموذج الإدراكي" الذي يؤدي إختلافه عند البشر إلى أن يسلك كل منهم بطريقة مختلفة عن الآخر في نفس الموقف، وبسبب عدم فهم النموذج الإسلامي يعجز العالمانيون عن فهم طبيعة العلاقة بين أهل غزة وأبنائهم المقاومين، فتراهم يتخبطون في محاولة رسم خطط لإستغلال الدمار المادي لدفع الغزاويين للتخلي عن هدف التحرير كثمن للإعمار.
يمتلك كل إنسان، بشكل واعي أو غير واعي، صورة ذهنية عن العالم، تشمل طبيعة الوجود، والقوى التي تحكمه، ومعنى الحياة والهدف منها، والموت وما بعده، ودور الإنسان على الأرض وعلاقته بسائر البشر، ويمكن القول بوجود مجموعتين متمايزتين من الصور الذهنية، تتمحور الأولى (مجموعة الصور الذهنية الدينية) حول قوة، أو قوى، إلهية، ولا تعترف الثانية (مجموعة الصور الذهنية الدنيوية) إلا بالقوى المادية وقوانينها، وتمتلك الصور الذهنية داخل كل مجموعة قواسم مشتركة تجمعها دون أن يمنع هذا من وجود تفاوتات بينها.
تشترك الصور الدنيوية في نظرتها للعالم كآلة كبيرة فائقة الكفاءة شديدة التعقيد تخضع لقوانينها الكامنة فيها، وليست كلها صور إلحادية، فبعضها يؤمن بإله خلق العالم وأعطاه قوانينه ثم تركه ليعمل كأي ماكينة، وهذا الإله لا يعير البشر أي إهتمام خاص، ليس له أوامر ولا نواه ولا يتدخل لدعم الأخيار أو معاقبة الأشرار، كما توجد ضمن هذه المجموعة صور ذهنية يحملها متدينون يرون الدين مجرد علاقة بين الإنسان والخالق تحقق له السكينة والسلام الداخلي، لكن ليس من أهداف الدين، عند هؤلاء، تنظيم مجتمعات البشر، ويحمل كثير من العالمانيين المسلمين والمسيحين واليهود تنويعات مختلفة من هذه الصور.
ولا يقتصر الإختلاف بين الصور الدينية على إختلاف الشرائع، بل يمتد، وهو الأهم، إلى فكرة الناس عن الألوهية، فهناك الإله المفارق المتسامي، والإله المفارق المتجسد، والإله الحال في الكون (أديان الحلول)، والإله الذي يكون مع العالم وحدة واحدة (أديان وحدة الوجود) .. إلخ، لا تهمنا هذه الإختلافات، فنحن نريد أن نفهم شعب غزة المسلم (ونشرحه طريقته في الإدراك لمن لا يفهمها).
لا شك أن الصورة الذهنية مكون محوري في النموذج الإدراكي، لكن سلوك الفرد في حياته يعتمد على نسق القيم الذي يتبناه، ونسق القيم هو مجمل الأفكار المتعلقة بماهية الخير والشر، الحق والباطل، الصواب والخطأ، العدل والظلم .. إلخ، والمسلمون يأخذون قيمهم، شعروا أم لم يشعروا، من الإسلام، ما أمر به الله فهو خير، وما نهى عنه فهو شر، والله هو الذي يقرر الحقوق ولم يترك تقريرها للبشر، والظلم حرمان الإنسان من حق كفله الله له .. وهكذا .. وخلال العيش المشترك عبر تاريخ طويل تتجلى هذه القيم في قواعد سائدة للسلوك، نطلق عليها العادات والتقاليد والأعراف والأخلاق .. إلخ، وقواعد السلوك هي التي تدفع الفرد إلى القيام بما ينبغي عليه القيام به في موقف معين، وتثنيه عما يخجل من فعله، وترشده إلى ما يجب حض الآخرين عليه أو منعهم من إقترافه .. من هذه التوليفة (صورة العالم + نسق القيم + قواعد السلوك) يتكون النموذج الإدراكي الذي يستخدمه الفرد لربط الأحداث والمواقف ببعضها ليفهم الحدث الذي يعيشه ويتخذ إزاءه رد الفعل الملائم.
بدون نموذج إدراكي مشترك بين كل الناس، أو أغلبهم، لا يمكن أن يقوم مجتمع متماسك أو تنشأ حضارة، فوحدة المسلمات القيمية وقواعد السلوك هي التي تحقق وحدة الفهم والأهداف والأولويات وردود الأفعال في كل موقف، وإلا فإن الجدل سيستعر في مواجهة كل مشكلة ويتعذر الإتفاق على حل.
ليس من اليسير أن نرسم ملامح النموذج الإدراكي الإسلامي، وقد قدم الشهيد سيد قطب فكرة جيدة عن جانبه التصوري والقيمي في كتابه "خصائص التصور الإسلامي" وفي فصل "جيل قرآني فريد" من كتابه الأشهر "معالم في الطريق"، ولقد ظن الكثيرون، وكنت منهم، أن ما رسمه الأستاذ سيد هو صورة مغرقة في المثالية، ربما تكون قد تحققت لمن تمتع بالصحبة لكنها أبعد من نقترب منها في زماننا، إلى أن مد الله في عمري لأراه يتحقق، وإن لم يكن بحذافيره، في بقعة مضيئة على هذه الأرض إسمها غزة.
يسيطر على المواطن الغزاوي العادي فكرة أن المطلوب منه هو القيام بالعمل الصحيح لكنه لن يسأل عن النتائج، وأن العمل الصحيح هو ذلك الذي يحقق مراد الله بغض النظر عن منفعته أو ما يحققه من مصالح آنية، فما يرضي الله هو الذي يحقق السعادة الحقيقية، إن لم يجدها في الدنيا فالآخرة خير وأبقى، وهو مقتنع بأن تحرير فلسطين هو فريضة شرعية تهون في سبيلها كل التضحيات، وعقله ووجدانه يحتقر فكرة السعي للخلاص الفردي الدنيوي التي تسيطر على العالماني.
وهذا الفلسطيني – كأي مسلم صادق – يواجه الموت في سبيل الله برباطة جأش، وأهله لا يرون في رحيله إلا شهادة، إرتقاء، والحزن على فراق الأحبة لا يتحول إلى جزع أو رهبة من ملاقاة نفس المصير، ولا يولد عنده أي رغبة في الإستسلام، إنها النفسية المجاهدة الصابرة التي تربط الدنيا بالآخرة، وتعلي من قيمة الزهد والتجرد والصبر، هو بالطبع لا يفضل المعاناة، لكنها إن أصابته لا تحرفه عن هدفه.
هذه ليست عبارات إنشائية عاطفية نعزي بها أنفسنا، فهي تصف حالة حقيقة ملموسة تجلت في هذا الصمود المذهل، وهي تقدم لنا فرصة لبناء خطة فعالة لإفشال مؤامرة الإعمار مقابل الإستسلام .. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.