منذ 4 اسابيع | 2268 مشاهدات
عندما يتوقف إطلاق النار يجب أن يستمر الكفاح السياسي ليجني ثمار التضحيات وليحرث الأرض للمعركة التالية، ولا شك أن السلطة التي خذلت المقاومة لن تكون هي التي تبني جبهة دولية لإستثمار الصمود والنصر (ستضيعه كما أضاعت ثمار الإنتفاضة)، ومن باب أولى لن تقوم بالتحضير للمعركة القادمة، فقد أعلنت هذه السلطة البائسة إستعدادها للدخول في مواجهة مسلحة مع المقاومين لتبسط سلطتها على غزة، لا أظن أحدا يصدق أنها ستنجح، لكن هذا يعطيك فكرة عن درجة الإنحطاط التي وصلت إليها، بالإضافة لذلك فقد بدأت صياغة حل الدولتين ليصبح مجرد تعميق لسلطة أوسلو وإعطائها مزيدا من الصلاحيات على الأرض المحتلة عام 1967، ولأننا نعتقد أن الكفاح السياسي في هذه المرحلة يجب أن يعتمد على المطالبة بدولة مستقلة ذات سيادة على الأرض الفلسطينية التي حددها قرار التقسيم رقم 181 لسنة 1947 (مساحتها ضعف مساحة الأرض المحتلة عام 1967 .. سنؤجل مناقشة هذه النقطة) فإن وجود كيان سياسي فلسطيني يقوم بهذه المطالبة هو قضية ملحة حتى لا نعطي العدو فرصة إجهاض الكفاح الفلسطيني بأن يقيم على عينه كيانا هشا مستسلما يسحب به البساط من تحت القوى الدولية المؤيدة للحق الفلسطيني، والتي بدأت فعلا سعيا جادا لإتخاذ إجراءات عمية لدعم هذا الحق.
ما هو السبيل لإقامة هذا الكيان السياسي؟ .. لقد تحطمت كل المحاولات المتكررة التي قامت بها الفصائل الفلسطينية لأنها كانت تحاول تطوير وإصلاح سلطة أوسلو، والتي إنتهت كلها بتقديم مقترحات إلى أبو مازن ليرفضها وينتهي الأمر .. هل توجد وسيلة أخرى مقبولة دوليا؟ .. بالتأكيد، ولها سوابق تاريخية عديدة، دعنا نتذكر أهمها: حكومة فرنسا الحرة في المنفى أثناء الحرب العالمية الثانية.
بعد إستيلاء النازي على باريس إنسحبت الحكومة الفرنسية إلى مدينة تور، ثم بوردو، ثم أعلنت إستقالتها يوم 17 يونيو 1940 ليقوم الماريشال بيتان، الذي كان وقتها يحظى بشعبية كبيرة، بتشكيل حكومة لتقوم بإجراء مفاوضات الهدنة، فأعلن الجنرال ديجول وبعض زملاؤه فورا رفضهم إلقاء السلاح وفروا إلى لندن، ليعلن في اليوم التالي، 18 يونيو، نداءه الشهير من الإذاعة الإنجليزية: "أيها الفرنسيون، لقد خسرنا معركة، لكننا لم نخسر الحرب، وسوف نناضل حتى تحرير بلدنا"، وفي 22 يونيو وقع بيتان هدنة مهينة نتج عنها تقسيم فرنسا إلى جزء شمالي غربي تحتله ألمانيا، وجزء شرقي صغير تحتله إيطاليا، والجزء المتبقي يحكمه الماريشال بيتان من مدينة "فيشي"، وأسست الهدنة "لتعاون" بين حكومة فيشي وألمانيا، بعد نزع سلاح الجيش الفرنسي، وسيطرة الجيش الألماني على المطارات والمواقع العسكرية، على أن تسدد فرنسا غرامة يومية مقدارها 400 مليون فرنك مقابل "الوجود السلمي" للجيش الألماني على الأراضي الفرنسية.
إعتمدت حكومة فيشي في بسط نفوذها على الوجود الألماني، الذي سيطر بشكل مباشر على ثلثي الأراضي الفرنسية، ووضع يده على دواليب الإقتصاد، الأمر الذي مكنه من التدخل في سياسة حكومة فيشي، في ظل هذا الوضع لم يكن أمام الماريشال بيتان إلا أن يحكم حكما إستبداديا برره بشعارات جوفاء عن المصلحة الوطنية العليا، فقمع الصحافة، وألغى الأحزاب والنقابات، وانتهج سياسة موالية للنازي، كإجبار الشباب الفرنسي بين 20 – 23 سنة على الذهاب للعمل في ألمانيا لتعويض النقص في العمال الألمان الذين إلتحقوا بالجيش، ووصل الأمر إلى تشكيل ميليشيات فرنسية منظمة شبه عسكرية قاتلت مع الجيش الألماني ضد مقاتلي المقاومة الفرنسية (ألا يذكرك هذا بالتنسيق الأمني والعمل على تصفية المقاومة في الضفة .. إلخ).
في البداية حظت حكومة فيشي بالقبول من الشعب لأنها نأت به عن المعارك ونظمت توفير الغذاء والوقود، لكن في ربيع العام التالي خرج الرأي العام عن سباته، وبدأ القبول بحكومة فيشي في التراجع بسرعة، وأدرك الناس حقيقة وضعها كنظام قمعي يعمل لصالح للإحتلال، وإتجه الشعب إلى دعم المقاومة وإعتبار ديجول رمزا للوطنية الفرنسية، إلى أن إستقبلته باريس في أغسطس 1944 إستقبالا شعبيا كبيرا.
أعلن ديجول، بدعم من الحكومة الإنجليزية، تشكيل حكومة فرنسية في المنفى، وتوالى بالتدريج إعتراف المواطنين والجيوش الفرنسية في المستعمرات بهذه الحكومة، وفي 1942 تم إنشاء المجلس الوطني للمقاومة في فرنسا بمشاركة كل القوى الفرنسية الوطنية الرافضة للإحتلال النازي – بما في ذلك الأحزاب السياسية والنقابات وحركات المقاومة –، الذي تولى تنسيق عمليات المقاومة المسلحة على الأراضي الفرنسية المحتلة، وفي الوقت نفسه شاركت قوات حكومة فرنسا الحرة ضمن جيوش الحلفاء إلى أن تم هزيمة النازي.
توضح تجربة الحكومة الفرنسية في المنفى، التي إعترفت بها كل الدول خارج محور ألمانيا – إيطاليا، وكل التجارب الأخرى الناجحة، أن القانون الدولي ونظمه وأعرافه تسمح للشعوب المحتلة أن تشكل حكومات في المنفى تقود الكفاح في سبيل التحرير طالما أن الحكومات المحلية القائمة قبلت بسلطة الإحتلال وخضعت له، فما هو المطلوب لقيام حكومة فلسطينية في المنفى؟ وما هي الوسائل المتاحة لقوى التحرر الفلسطيني لإقامة هذه الحكومة؟ .. سنواصل بإذن الله.