منذ 1 شهور | 1940 مشاهدات
الكلام عن أن سلطة أبو مازن هي الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني هي عملية خداع مستمر، إنها إختراع إسرائيلي الهدف منه هو إلغاء الكفاح المسلح من قاموس حركة تحرير فلسطين .. لقد آن لنا أن نعمل على وقفها.
منذ أعلن نتنياهو الحرب على غزة وهم يطرحون السؤال: ماذا بعد حماس؟ .. فقد كانوا كلهم، الصهاينة والأمريكان والعرب، يتوقعون أن تنتهي الحرب وقد إختفت حماس، فلمن ستسلم إسرائيل إدارة غزة؟ .. أكد نتنياهو أنه لا يريدها حماسستان ولا فتحستان، ولم يقل ماذا يريد، واكتفى بالسماح لشركائه بإطلاق تصريحات مختلفة كبالونات إختبار، لكنه على الأرجح كان يرغب في إخلاء القطاع من سكانه، أو جزء كبير منهم، وضم أرضه وتقديمها للمستوطنين، لكن الصمود الأسطوري لأهلنا ورفضهم إخلاء أرضهم، وما صاحبه من تعاطف شعبي عالمي عارم، أفشل هذا الخيار (إلى أن جاء ترامب ليحاول إحياءه)، ثم تردد حديث عن الإدارة العسكرية، لكن قادة الجيش الصهيوني قاوموا الفكرة بشدة، فهم يدركون أن هذا الحل سيتطلب تمركز قواتهم في نقاط ثابتة وإحتكاكهم بالناس عن قرب وبشكل مستمر مما يجعلهم أهدافا سهلة لنيران المقاومة، وتجربة الشهور الأولى أثبتت لهم خطورة هذه النيران مما إضطرهم لتبني تاكتيك الدخول للإشتباك ثم الخروج بسرعة، لا يمكن للجيش أن يدير الحياة اليومية، أما إقتراح تسليم القطاع لقوات عربية أوروبية مشتركة فقد مات فور ظهوره، فكل الشركاء المحتملين أبدوا إعتراضهم على أن يلعبوا دورا سيجعلهم بالتأكيد قوة إحتلال أجنبية بديلة.
في اللحظات الأخيرة قبل وقف إطلاق النار طرحت سلطة أبو مازن كحل معقول، خاصة وأن قواته بدأت حملة واسعة لمطاردة المقاومين في الضفة ليثبت جدارته بتولي إدارة القطاع، لكن بمجرد أن بدأت عملية تبادل الأسرى إتضح للجميع أن المقاومة ما زالت حاضرة ومتماسكة وتسيطر على الأمور، وأن أهل غزة كلهم إما مقاومون أو داعمون للمقاومين .. لا يمكن إدارة غزة بدون حماس، فظهر الحل الذي يقول يتسليم غزة لإدارة مشتركة من السلطة وحماس معا .. حتى الآن أعلنت حماس قبولها وأعلنت السلطة، كالعادة، رفضها.
يمكننا أن نتفهم أسباب قبول حماس لعودة ممثلي السلطة إلى غزة، بعضها مرحلي سينتهي قريبا، وهو المتعلق بتفويت الفرصة على الحكومة الإسرائيلية لإجهاض الصفقة، فمع ثقة المقاومة في متانة قاعدتها الشعبية وإتساعها فإن وجود بعض رجال أبو مازن في القطاع هو أهون الضررين، لكن العامل الأهم والأخطر هو الضغط الذي تمارسه المقولة الشائعة التي تصر على أن وحدة الصف وجمع الشمل هو شرط أساسي لإستعادة الحق الفلسطيني .. المقولة في حد ذاتها صحيحة إذا كان المقصود هو وحدة الصف الوطني المقاوم (بالسلاح أو بغيره)، لكن إدخال سلطة أبو مازن ضمن القوى التي يجب التوافق معها حتى يمكن تحرير فلسطين هو خدعة تفسد المقولة، ويجب فضح هذا الفساد وتخليص المقاومة من عبء الإضطرار لحمل الحية في عبها.
لقد أوضحنا في المقال السابق (من يمثل فلسطين) أن طبيعة السلطة الفلسطينية التي فرضتها إتفاقات أوسلو تفرض عليها أن تكون مجرد واحدة من الإدارات المحلية لحكومة إسرائيل، وأداء هذه السلطة خلال الخمسة عشر شهرا المجيد يزيل أي لبس قد يكون لدى البعض في أن هذه السلطة لم تنشأ إلا لتكون إداة لقمع الكفاح المسلح للشعب الفلسطيني (فهي لم تكتفي بموقف المتفرج الذي يمتنع عن المشاركة، بل أدانت الطوفان، وإصطفت مع الجيش الإسرائيلي في مطاردة المقاومة في الضفة وإعتقال المقاومين، بل وقتلهم، وممارسة ضغوط إجرامية على حاضنتهم الشعبية للتخلي عنهم) .. نحن لا نرفض التفاوض من حيث المبدأ، فكل حركات التحرر الناجحة دخلت في مرحلة ما في مفاوضات مع العدو، لكن المفاوض كان على الدوام هو الظهير السياسي للمقاتل، ولم يحدث أبدا أن نجح مفاوض ينبذ العمل المسلح في إقناع قوات الإحتلال بالجلاء .. ولا مرة .. فالجلاء إما أن يتم تحت ضغط العمليات القتالية أو تحت التهديد بها.
على أي أساس يريدوننا أن نتعامل مع حكومة أبو مازن على أنها حكومة فلسطين؟ .. إنها ليست حكومة، فهي لا تسيطر على حدودها، ولا على مواردها المالية، بل إنها لا تسيطر على إقليمها، فهي لا تستطيع أن توقف نمو الإستيطان الإسرائيلي ولا منعه من الإستمرار في قضم المزيد من الأرض كل يوم، بل إنها لا تملك مجرد حماية مواطنيها من عدوان المستوطنين على أرواحهم وممتلكاتهم، إنها ليست حتى إدارة محلية، فكيف تكون حكومة؟ .. ثم لماذا هي فلسطينية؟ هل لأن الأشخاص الذين يشغلون مناصبها هم عرقيا فلسطينيون؟ قبل أوسلو كان الإحتلال يضع على رأس إدارات المدن والقرى رجال فلسطينيون، فهل كانت إدارات فلسطينية؟ وعرب 48 منهم نواب في الكنيست، فهل هم نواب فلسطينيون؟ .. العبرة ليست بالأصل العرقي لموظف، وإنما بالضوابط الحاكمة لممارساته والأهداف التي تعمل وظيفته على تحقيقها، لقد كان هناك ضباط جزائريون في الجيش الفرنسي إبان الثورة الجزائرية، فهل قال أحد أن هؤلاء الضباط يجب أن يعاملهم الثوار على أنهم أخوة في الوطن؟ والجيش الإنجليزي الذي حارب دولة الخلافة في الحرب العالمية الأولى كان به جنود مصريون (ومنهم من قاتل في معركة إحتلال القدس ضمن القوات الإنجليزية) فهل كان على جيش الدولة الإسلامية أن يعاملهم كمصريين؟ .. الأصل العرقي لا يهم، المهم هو الجانب الذي تقف فيه من طرفي الصراع.
إن إستقراء التاريخ ينبئنا أن دول الإحتلال كانت تواجه حركات التحرير بإصطناع كيان محلي من أبناء الشعب المحتل لتسبغ عليه صفة الممثل الوحيد للشعب، ثم تتفاوض معه في محاولة لإضفاء الشرعية على الإحتلال أو لتحقيق الجلاء بشروط تحوله إلى تبعية كاملة في ظل إستقلال شكلي، الأسوأ هو أن هذا الإستقلال الشكلي لا يمكن أن يقدمه إحتلال إستيطاني، فهذا النوع من الإحتلال لا يقبل بإعطاء الشعب الأصلي أي درجة من درجات الوجود المستقل، ولم تكن مفاوضاته في كل الحالات إلا وسيلة لكسب الوقت إلى أن يتم إخضاع الشعب الأصلي لإبادته وعزل ما يتبقى منه في معازل خاصة، ومع الزمن إما أن ينقرض الشعب الإصلي أو يتحول إلى شراذم هامشية (راجع قصة الهنود الحمر في أمريكا والشعب الأصلي لأستراليا) .. سلطة أبو مازن لم توجد إلا لتلعب هذا الدور، واعتبارها الكيان السياسي الي يمثل الفلسطينيين على المستوى الدولي يحرمنا من الأداة الضرورية لإستمرار الكفاح .. كيف نتعامل مع هذا الوضع؟