منذ 2 شهور | 1180 مشاهدات
يقتضي السياق أن نخصص هذا المقال للطريقة التي تبني بها المقاومة كيانا سياسيا يتعامل مع المجتمع الدولي – شعوبا وحكومات – ليملأ الفراغ الذي أحدثه تهميش منظمة التحرير، لكني آثرت أن أخصصه لظاهرة نتجت عن غياب هذا الكيان الذي يقود الإعلام، فيرسم سياساته، ويصحح شطحات المؤيدين عندما ينزلقون لمواقف تدعم السردية الصهيونية.
لا أتكلم عن عرب متصهينون، وإنما عن ناشطين مؤثرين على شبكات التواصل عرفوا بموقفهم الداعم، لكنهم يبثون أحيانا رسائل ظاهرها الإشفاق والنصح والتنديد بخيانة الحكام، لكنها تؤدي لعكس ذلك، وهي اشد خطرا من الإعلام العبري أو الصهيو-عربي، لأن متابعي المؤيدين يتلقون رسائلهم بغير حذر، ويصدقونها بلا تحفظ، لأنها تأتي ممن يثقون بهم .. ينبغي علينا أن ننبه هؤلاء الشرفاء بالذوق أو بالعافية حتى لا يكونوا كالدبة التي نعرف جميعا ما فعلت بصاحبها.
مؤخرا أخذ بعضهم يروج، تلميحا أو تصريحا، دون أن يقدم أي دليل، لفكرة أن المخابرات المصرية هي التي سلمت الشهيد يحيى السنوار، أعرف الضرر الجسيم لهذه الفكرة بينما لا أعرف لها أية فائدة، لا تقل: تفضح النظام المصري، هذا تحصيل حاصل، فلم يعد خافيا على أحد إنحيازه الصهيوني (مشيها إنحياز)، إن الفيديوهات التي تعجل الجنود الصهاينة بنشرها تؤكد أنهم لم يكونوا يعرفون شخصية من يواجههم فاكتفوا بإطلاق الرصاص، ولو كان لديهم أي شك لإستدعوا الطائرات ونسفوا المبنى، ولقاموا على مهل بإخراج الحدث بالصورة التي تخدمهم، بدلا من هذه التي تظهره بطلا .. إن ترويج هذه الرواية يصب في خانة الدعاية الصهيونية التي تريد إقناعنا أن أجهزتهم كالقدر المحتوم تصل لكل من تريده، كما أنها تشكك في كفاءة إحتياطات الأمن الفلسطينية .. لو إفترضنا صحة هذه الرواية، وهي بالقطع غير صحيحة، وكنت مسئولا عن إعلام المقاومة، لمنعت نشرها، ولطلبت من كل الأنصار إنكارها وتسفيهها حفاظا على الروح المعنوية كما تفعل الرقابة الإسرائيلية حيال خسائرها، فالمقاومون لا يضيرهم إرتقاء قادتهم شهداء، لكن سيقلقهم كثيرا أن يقع هؤلاء القادة بسذاجة في فخاخ العدو.
ويتوسع صحفي مصري معارض، عرفته زمان مثقفا ذكيا، ليقول لنا أنه منذ البداية نصح المقاومين بعدم التعامل مع رجال المخابرات المصرية لأنهم مدربون على إستخراج المعلومات دون أن يشعر محاوريهم، لكن المقاومة لم تستمع له، فسقط كثيرون ما كانوا ليسقطوا لو أخذوا بنصيحته .. يا سلام .. في كل حروب التحرير لابد للمقاومة أن تتفاوض في وقت ما مع المحتل، هذا أمر لا محيص عنه، فلماذا المقاومة الفلسطينية بالذات لن تنجح في التفاوض دون أن تمكن الآخرين من إستدراجهم للإفصاح عما لا يجب الإفصاح عنه؟ خاصة وأن المخابرات المصرية ليست فوق مستوى الشبهات عند المقاومين، فدماء قادة الجهاد الإسلامي لم تجف بعد، ثم إن القادة الذين يقومون بالتفاوض يقيمون في الخارج وليس لديهم معلومات عن العمليات على الأرض، ولا يعرفون أية تفاصيل عن مواقع المقاتلين أو خططهم الميدانية، بل إنهم لم يعرفوا أصلا عن عملية الطوفان إلا بعد أن بدأت فعلا (نموذج للحرص الأمني) .. ولعل أخانا هذا قد شعر أن كلامه سيبدو كدعاية مضادة تشكك في كفاءة القيادة وتضغف الروح المعنوية، وهو بالفعل كذلك، فطفق يعتذر بأن هذه نصيحة لا يمكن تأجيلها، وهو مضطر لأن يسوقها حتى تقوم المقاومة بتصحيح أخطائها .. لنا ملاحظتان (بخلاف الغيظ الشديد): أولا: ما الذي يجعلك على يقين من أن هذا الخطأ قد وقع؟ هل لمجرد أن قادة حماس إلتقوا برجال المخابرات؟ هل لأنك أنت شخصيا لاتعرف كيف تكتم أسرارك؟ ولماذا لا يكون المفاوض الفلسطيني قد تدرب على التفاوض دون أن يمكن الآخرين من إقتحام أسراره؟ دليلنا هو أن هؤلاء الناس أعدوا فعلا لعمليتهم بذكاء وحنكة وأخفوها عن الجميع .. وثانيا: هل نشر النصيحة في فيديو علني هو الطريقة الوحيدة لإيصالها لقادة المقاومة؟ أنا أعرف أنك بتاريخك ومكان إقامتك تملك نفس الإتصالات التي يملكها مذيعو "الجزيرة" و"العربي" الذين يستضيفون هذه القيادات طول الوقت، وأنت تربطك بهؤلاء المذيعين علاقات شخصية، فلماذا يا أخانا؟
ونشر الأستاذ محمود سالم فيديو مهم يعاتب فيه بعنف هؤلاء الذين نتكلم عنهم لأنهم سارعوا للترويج لكتاب "وودوورد" لمجرد أنه ذكر فيه كلمات الحكام العرب لوزير الخارجية الأمريكي التي أعربوا فيها عن تأييدهم للصهاينة في حربهم على غزة ورغبتهم في القضاء على حماس لكنهم لا يستطيعون الجهر بذلك خوفا من شعوبهم .. ينبه الأستاذ سالم إلى أننا لم نكسب شيئا من تعريف الناس بما يعرفونه بالفعل، لكن هذه الفيديوهات تمثل دعاية لكتاب يقدم المقاومة بصورة شديدة السلبية، ويتبنى كل الأكاذيب الإسرائيلية عن وحشية الفلسطينيين الذين قتلوا المدنيين ومثلوا بجثثهم واغتصبوا النساء وقطعوا رؤوس الأطفال .. إلخ، ويتجاهل وودورد أن الصحافة العبرية نفسها قد فضحت هذه الأكاذيب وأثبتت زيفها، فيقدمها كحقائق ثابتة، يقول الأستاذ سالم أن علينا أن نهاجم الكتاب لا أن نمتدحه، أوافق، وأضيف أنك لو نظرت إلى الكتاب في مجمله مجمله لا يرمي لفضح الأنظمة، بل العكس، هو يريد تأكيد السردية الصهيونية التي تقول أن العرب أنفسهم يرون في المقاومة أداة تخريب ويؤيدون الحرب عليها ويتمنون أن تنقذ إسرائيل العالم العربي من هذا الإبن المارق .. الكتاب يريد أن يقدم تبريرا للدعم الأمريكي لإسرائيل لا أن يدين الحكام العرب.
أما الأستاذ أسامة فوزي، وهو صحفي أمريكي فلسطيني له إتجاه عروبي، كرس جهدا كبير لدعم الطوفان، مؤكدا أنه يرى حما أكثر من مجرد تنظيم إسلامي، فهي عنده القيادة الحقيقية لحركة تحرير فلسطين (قضية مهمة سنعرض لها لاحقا)، فيؤكد أن وودورد لا يمكنه أن يكذب، لأن القانون الأمريكي يعطي الحق للضحية أن يلجأ للقضاء ويثبت الكذب ويحصل على تعويض يقصم ظهر الصحفي .. كلام الأستاذ فوزي صحيح بالنسبة للنظم والكيانات التي يمكنها اللجوء للقضاء، لكن هذا لا ينطبق على المقاومة التي تفتقر إلى كيان قانوني يذهب للقضاء، والفصائل نفسها تصنف أمريكيا على أنها كيانات إرهابية، ثم أن ودوورد فليس بالصحفي المدقق الشريف الذي لا يمكن أن يروج للأكاذيب، فهو نفسه الذي دعم رواية حكومة بوش الإبن عن أسلحة الدمار الشامل التي برروا بها غزو العراق .. لقد فرح إخواننا بأن وودورد يفضح الأنظمة، وتجاهلوا أن كتابه يشتم المقاومة.
هذه مجرد أمثلة عن الخسائر التي تلحق بالمقاومة نتيجة إفتقارها لكيان يمثلها على المستوى الدولي، ويبقى أن نفحص الأشكال والطرق التي يمكن بها خلق هذا الكيان، والله غالب على أمره.