منذ 3 شهور | 1471 مشاهدات
هل إسرائيل هي القاعدة الوحيدة للهيمنة الأمريكية؟ كلا بالطبع، فلأمريكا عدد ضخم من القواعد حول العالم، فلماذا لا تسبغ النخبة الأمريكية المسيطرة ، التي تتكون من الشريحة العليا للطبقة الرأسمالية وتضم كبار رجال المجمع الصناعي العسكري وقادة الشركات العملاقة والبنوك التي تخلق النقود وتسيطر على تريليونات الدولارات، وهي النخبة التي يتربى في كنفها كل السياسيين وتشكل منهم الحكومات، لماذا تسبغ هذه النخبة على إسرائيل بالذات كل هذه الحماية والرعاية التي جعلت البعض يقولون أنها الولاية الأمريكية الثانية والخمسون، بل يبدو أن الحكومة الفيدرالية تنفق على المواطن الإسرائيلي أكثر مما تنفق على المواطن في أي ولاية .. ما السبب؟
لقد فندنا في مقال سابق الدعوى الرائجة التي تزعم أن جماعات الضغط اليهودية هي التي تتحكم في السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط، وبنفس المنطق نرفض الدعاوى الحديثة التي تعزي ذلك لجماعات المسيحية الصهيونية التي تؤيد عودة اليهود إلى فلسطين لأنها تعتبر ذلك شرطا لنزول المسيح وقيام الملك الألفي السعيد .. إلخ، قد يوجد في النخبة أفراد متناثرون يؤمنون بهذه الأفكار، لكن المجموعة في مجملها لا تتسم بالتدين، وهي تتخذ قراراتها على أسس براجماتية نفعية، وتحكمها قيم عالمانية، ولا تستخدم الديباجات الدينية إلا لكسب تأييد العوام متى كان ذلك متسقا مع أهدافها، والمسألة لا تعدو الرغبة في إضفاء مسحة أخلاقية على سلوك يتسم بالماكيافيلية لحمة وسداه، ومن أبرز رموزها الآن دونالد ترامب بكل فضائحه الجنسية ومخالفاته المالية، وإلون ماسك صاحب ال 250 مليار دولار الذي أنجب 12 إبنا ليس منهم واحد من علاقة شرعية .. لا تقل لي أن هذه النوعية تلقي بالا لنبؤات الكتاب وأقوال الأنبياء.
كيف شاعت فكرة أن الحكومات الأمريكية تدعم وتحمي إسرائيل خضوعا لضغوط جماعات دينية يهودية أو مسيحية؟ إن النخبة لا تسيطر بالقهر، وإنما تسوق الشعب بإستخدام عدة أدوات، فهي تقوم بتنقية الطبقة السياسية من كل من لا تتفق أفكاره مع توجهاتها، أو لا يمكن إخضاعه بالترغيب والترهيب، من خلال حجب التمويل الضروري لإدارة الحملات الإنتخابية باهظة التكاليف، أو بوسائل أخرى أكثر قذارة (قد تفلت قلة لا يمكنها التأثير)، ثم هي تسيطر على وسائل الإعلام لتوجيه الرأي العام لقبول سياساتها وإعتبارها معبرة عن مصالح الشعب، والضوضاء التي تثيرها جماعات الضغط الصهيونية مفيدة في هذا السبيل، فهي تساهم في توجيه الرأي العام، ثم هي تعمل على إيهامنا نحن المتضررين من السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط بأن أمريكا لا تضمر لنا في الواقع أي شر وإنما هي جماعات الضغط والأصوات الإنتخابية .. إلخ، لكن الحقيقة أن النخبة قادرة على إسكات هذه الجماعات إذا كان ضغطها في إتجاه لا يتوافق مع مصالح النخبة، وقد حدث هذا في حالات عديدة (راجع نعوم تشومسكي في كتاب "السلطان الخطير").
لماذا إذن تحرص النخبة الأمريكية على تقديم هذا الدعم الهائل لإسرائيل وتفرض على كل السياسيين الذين توصلهم إلى سدة الحكم أن يعلنوا تبنيهم الكامل للدعاوى الصهيونية؟ .. يرجع ذلك لمجموعتين رئيسيتين من الأسباب، الأولى تتعلق بالأهمية الفائقة لمنطقتنا، والثانية لقدرة إسرائيل التي لا تبارى على خدمة الهدف الأمريكي: إبقاء المنطقة تحت السيطرة.
تمتلك منطقتنا ثروات مادية هائلة، إحتياطيات النفط الضخمة ليست إلا بعضها، لكن الأهم هو أن موقعنا له القيمة الجيوسياسية الأكبر في العالم، وتفقد الإمبراطورية قدرا كبيرا من أدوات الهيمنة العالمية إذا خرجنا عن سيطرتها، حتى لو لم نقع تحت سيطرة منافسيها، وفي نفس الوقت برهنت شعوبنا على مدى قرنين كاملين على أنها تمتلك خصوصية حضارية راسخة ومتجذرة تدفعنا على الدوام لرفض أي نوع من التبعية لأي حضارة أجنبية، لذلك يعد الحفاظ على أنظمة محلية صديقة (مشيها صديقة) تخالف توجهات شعوبها أمر شديد الصعوبة ومرتفع التكلفة ولا يمكن ضمان إستمراره، وهو ما أثبته سقوط شاه إيران، مهما كان رأيك في الثورة التي أسقطته.
وتتميز إسرائيل بسبب طبيعة تكوينها بأنها ستظل للنهاية مخلصة لهدف إضعاف شعوب المنطقة وعرقلة نهضتها، ولا يوجد أي إحتمال لأن تأتي في وقت ما حكومة إسرائيلية تتنكر لهذا الهدف، فالأيديولوجية الصهيونية التي جمعت أشتات المهاجرين اليهود تتمحور حول ضرورة العمل على إستعادة إسرائيل التاريخية وبناء مملكة داود وسليمان الممتدة من النيل إلى الفرات، وإذا تخلت إسرائيل عن هذا الهدف فستفقد مبرر وجودها، والنخبة الأمريكية لا تلقي بالا لهذه المملكة، ويستوي عندها نجاح الصهيونية في إقامتها مع فشلها، المهم هو أن تظل إسرائيل تحاول، حتى تنشغل الأنظمة المحلية في الدفاع عن نفسها، وتظل مستعدة لتقديم كل التنازلات التي يطلبها السيد الأمريكي كي يلجم كلبه ويجعله يكتفي بأرض فلسطين ويترك لهم ممالكهم، والسيد بدوره يدعم كلبه ليظل قويا بما يكفي ليشعروا بخطورته، لكنه لا يوصله لدرجة أن يفترسهم، فالسيد يريد المحافظة على حياة القطيع حتى يتمكن من الإستفادة من حليبه ولحومه وأصوافه.
إن التحدي الأكبر الذي يواجهنا إذن ليس هو كيف نتغلب على القوة الذاتية للكيان الصهيوني، وإنما هو كيف نجعل إسرائيل عاجزة عن خدمة المصالح الأمريكية، والطوفان يساهم مساهمة كبيرة في هذا الإتجاه، وربما نحتاج لتوضيح هذه الفكرة حتى نخرس الأصوات التي لا ترى له نتيجة إلا تخريب غزة، لكن هناك مهام أخرى ضرورية على الأمة أن تقوم بدورها في إنجازها، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.