منذ 3 شهور | 1957 مشاهدات
إذا كان لدى حماس تحليل إستراتيجي قادها إلى عملية طوفان الأقصى فمن الطبيعي ألا تعلنه، لكن أداءها الرائع خلال الشهور الأحد عشر الماضية يجعلنا نطمئن إلى وجود هذا التحليل، وليس ترفا أن نحاول إستقراء هذه الإسترتيجية، فمرفتها ضرورية لرسم إطار عام لتوجيه مختلف الجهود الساعية لتحرير منطقتنا من الهيمنة الأمريكية، فقد غدت غزة، وأرجو أن أزيد الأمر إيضاحا فيما بعد، هي راس الحربة في تحرير أمتنا.
سنستعرض بإختصار ما قادنا الإستقراء لإعتباره عناصر هذا التحليل، لنقوم في مقالات تالية بإذن الله بتفصيل كل عنصر، وتوضيح دوره في بناء إستراتيجية التحرير، تحرير فلسطين، وتحرير أمتنا.
إن إسرائيل ليست إلا قاعدة متقدمة للهيمنة الأمريكية، وسقوطها هو شرط لسقوط النظم المحلية التي تخدم إستمرار التبعية وعرقلة النهضة، وليس صحيحا أن جماعات الضغط اليهودية هي التي تضطر الحكومات الأمريكية المتعاقبة لدعم إسرائيل، وإنما مصالح النخبة الأمريكية المسيطرة، التي تصنع الحكومات وتوجهها، هي التي تحرك السياسة الأمريكية للحفاظ على قاعدتها المتقدمة.
لا يمكن لأي خطة واقعية أن تسعي لكسر القوة الأمريكية في مواجهة عسكرية، فهذه القوة لن تنكسر إلا بفعل صراع الأقطاب العالمية، وهذه الأقطاب، وعلى رأسها الصين وروسيا، ثم الإتحاد الأوروبي بدرجة أقل، لم تصل بعد إلى القوة التي تمكنها من المواجهة الحاسمة، وهي على الأرجح لا تسعى لهذه المواجهة، ولكنها تعمل على الفوز بالنقاط، أي إلى إنتزاع ركائز النفوذ الأمريكي حول العالم، أو فصلها عن أمريكا إذا لم تتمكن من الإستحواذ عليها، فتتآكل الإمبراطورية ثم تنهار، ونحن مرشحون للحصول على دعم هذه القوى المناوئة للإمبراطورية إذا كنا سنتمكن من إضعاف ركيزتها عندنا وبناء قوتنا الراغبة في الإستقلال وإنهاء التبعية، وليس بالضرورة أن نزيل القاعدة الصهيونية تماما حتى نتمكن من البدء في إقامة قاعدتنا، فربما لا تسمح الأوضاع الحالية بأكثر من إضعاف الكيان لدرجة تسمح بإقامة الدولة الفلسطينية إلى جواره، لتستمر في إضعاف القوة الصهيونية إلى أن تذيبها تماما.
يقوم المنطق الأمريكي على فكرة أن تكلفة دعم إسرائيل لتكون أداتها في إخضاع منطقتنا أقل من تكلفة قيام أمريكا بالتعامل بنفسها مع الحركات الشعبية المطالبة بالإستقلال، وبناء عليه فأي إستراتيجية للتحرير _ تحرير فلسطين وتحرير أقاليمنا – يجب أن تعمل على قلب هذه المعادلة، ففي شقها الأول علينا رفع التكلفة التي يتحملها دافع الضرائب الأمريكي لأقصى درجة ممكنة (تنجز المقاومة إنجازا جيدا في هذا الصدد، لكن هذا ليس هو السبيل الوحيد)، وفي شقها الثاني يجب العمل على خفض المنافع التي تقدمها إسرائيل لأمريكا لأقصى درجة، من خلال إضعاف قدرة إسرائيل على التأثير في نظمنا، وإضعاف قابلية نظمنا على التناغم مع التأثير الإسرائيلي (ولهذا يجب أن تظل القوى المناهضة للتطبيع في ذروة اليقظة والفاعلية) .. سيؤدي هذا في النهاية إلى أن تفقد النخب الأمريكية المسيطرة حماسها لحماية إسرائيل، عندما يزيد حجم الدعم المطلوب زيادة كبيرة بينما تتناقص المنافع نقصانا كبيرا.
لقد أدخل الصمود الأسطوري لأهلنا في غزة متغيرا جديدا في معادلة العلاقة بين التكلفة والعائد من وجهة نظر النخبة الأمريكية، فقد زاد هذا الصمود من حجم التعاطف الشعبي في اغلب دول العالم، ومنها أمريكا نفسها، مع معاتاة أهل غزة، مما أثر تأثيرا واضحا على الصورة الذهنية لأمريكا عند شعوب العالم، وإذا علمنا أن القوة الناعمة الأمريكية لها دور كبير في تحقيق الهيمنة، لأن القوة الغاشمة الصريحة لا يمكنها الإستمرار وحدها، فسندرك ما لهذه الظاهرة من تأثير على تقدير أمريكا لتكاليف دعمها لإسرائيل، وسيزداد هذا التعاطف زيادة كبيرة إذا نجحنا في إستثمار القرارات الأممية وأحكام المحاكم الدولية التي ترسم حدود دولة فلسطين وتؤكد طبيعة الإحتلال، فالتعاطف الإنساني مع معاناة السكان سيتعمق تأثيره عندما يتحول إلى تأييد لحركة تحرير وطنية تدعمها قرارات الأمم المتحدة والتفسيرات القانونية الدولية لطبيعة الصراع.
ربما لا نستطيع في هذه المرحلة أن ندفع أمريكا للتخلي التام عن إسرائيل، لكن نجاح المقاومة حتى الآن يخبرنا بأننا قادرون بإذن الله على دفعها لعدم مسايرة إسرائيل في رغبتها في قمع الشعب الفلسطيني قمعا كاملا، وأن تقنع بالحفاظ على وجودها داخل حدودها المعترف بها أمميا .. سيستمر هذا الوضع إلى أن ينتهي الشعب الفلسطيني من تنظيم نفسه داخل الحدود التي قررها قرار التقسيم رقم 181، وهو القرار الوحيد الذي يحتوي على خريطة معترف بها دوليا للدولة اليهودية، وعملية بناء وتنظيم الدولة الفلسطينية ستستغرق حواي عقدين من الزمان، قد تصاحبها تغيرات واسعة النطاق في كل الأنظمة العربية، وهي مهمة تتجاوز قدرات المقاومة وتقع على عاتق باقي شعوب المنطقة التي سيفتح لها نجاح المقاومة في المرحلة الأولى الطريق إذا شاءت العمل لتغيير واقعها البائس ( وهذا يفسر عداء الأنظمة للمقاومة).
ستضع الدولة الفلسطينية نصب عينيها، منذ البداية، تنفيذ القرار 191 القاضي بحق اللاجئين في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم، فقرار إنشاء دولة يهودية لم يتضمن بأي شكل من الأشكال طرد السكان غير اليهود والإستيلاء على ممتلكاتهم، وقد يبدو لك اليوم أن إرغام إسرائيل على قبول عودة اللاجئين هو حلم غير واقعي، لكن تذكر كيف كان التفكير في دولة فلسطينية في حدود 1948 يعد حلما غير واقعي قبل الطوفان، عندما تتراجع الدولة اليهودية للحدود الأممية ستفقد الكثير من قوتها ومن جاذبيتها لليهود وستتراجع قوتها العسكرية والإقتصادية، وعندها سيمكن تنظيم اللاجئين في المخيمات في لبنان وسوريا والضفة الغربية ومن جماهير الفلسطينيين في الشتات للمطالبة بالزحف إلى الداخل لإستعادة ممتلكاتهم .. لا يمكننا الآن تصور الآليات التي يمكن بها تحقيق ذلك، لكنه سيتحقق بإذن الله، وعندها لن يمكن للكيان أن يستمر في الإصرار على هويته اليهودية، إذ سيغدو اليهود مجرد أقلية كبيرة .. لن نطالب بإلقائهم في البحر، فسنقبل بدولة ديموقراطية يحكمها سكانها، تدار حسبما تقرر أغلبيتهم، وفي النهاية سيتم بإذن الله إعادة توحيد فلسطين الحرة المستقلة.