منذ 11 شهور | 3065 مشاهدات
كانت الصهيونية سعيدة بسفر يشوع (راجع المقال السابق)، فهو يقدم لهم خدمتين كبيرتين، الأولى هي أنه يعطي الأوامر الإلهية بإحتلال فلسطين وإبادة أهلها، والثانية هي أنه عندما يؤكد أن بني إسرائيل قد إحتلوا كل أرض فلسطين وأبادوا سكانها الأصليين يعزز أسطورة إسرائيل القديمة وحق اليهود التاريخي في فلسطين، لكن الحفريات ونتائج المسح الأثري والوثائق القديمة أثبتت أن اليهود لم يقوموا بغزو فلسطين في أي وقت من الأوقات، حتى أن الدكتور إسرائيل فنكلشتاين، أستاذ الآثار بالجامعة العبرية، كتب في بحث له: "كتاب يشوع لا يحتوي على حقائق تاريخية، وإنما على قصص أسطورية كتبها الشعراء، وقصة الغزو الإسرائيلي لكنعان ما هي إلا أسطورة من تأليف اللاحقين خالية من أي صحة" .. ولكن لأنه ما زال راغبا في التمسك بحق اليهود التاريخي في فلسطين (فهو لا يحب أن يرى نفسه مغتصبا لأرضنا) فقد تبنى، هو وغيره من كبار علماء الآثار والدراسات التوراتية، نظرية تقول أن بني إسرائيل قد تسللوا بالتدريج وبشكل سلمي في أواخر القرن 13 ق م ليسكنوا في فلسطين في مناطق كانت خالية حتى وقتها.
لكن لماذا يصر الصهاينة على أن اليهود قد بدأوا في سكنى فلسطين - سلما أو حربا – في أواخر القرن 13 ق م؟
إنهم مضطرون، فتاريخ ملوك مصر القديمة لا يسمح بوجود فرعون الخروج قبل ذلك التاريخ، وفي نفس الوقت يرتكز حقهم التاريخي على أسطورة مملكة اليهود من النيل إلى الفرات، أو إمبراطورية داود وسليمان، فلايمكنهم تأخير الدخول عن نهاية القرن 13 ق م، لأن تاريخ الإمبراطوريات القديمة لا يسمح بوجود دولة مستقلة على كامل أرض فلسطين إلا في النصف الثاني من القرن 11 ق م (سنناقش هذه الأسطورة في مقالات قادمة بإذن الله) ولا يمكن لقبائل العبرانيين البدو الرحل أن تقيم دولة – صغيرة كانت أو كبيرة – إلا بعد فترة كافية للإستقرار والتحالف ثم الإتحاد، وهذا يحتاج لقرنين على الأقل .. لكن مجرد رغبتهم في أن يكون هذا هو ما حدث لا تكفي لإقناع الآخرين بأنه قد حدث فعلا، لابد من الإستناد إلى معطيات أثرية وتاريخية بعد إنهيار حجية القصة التوراتية.
قادت المسوح الأثرية في منطقة السهول الجنوبية إلى أنها كانت فارغة تقريبا من السكان حتى أواخر القرن 13 ق م عندما بدأ الإستيطان على نطاق واسع وشرع السكان الجدد في إستصلاح الأرض وزراعتها، فسارع التوراتيون إلى الزعم بأن اليهود هم الذين أقاموا هذه المستوطنات وأن هذا هو الدليل المطلوب .. بعض المتخصصين إعترض بأن هذه المناطق الصحراوية غير المستوية يتطلب إستصلاحها وزراعتها معارف وخبرات تكنولوجية لا يمكن تصور وجودها عند البدو الرحل، لكن التوراتيون تمسكوا بالعبقرية اليهودية القادرة على حل أعقد المعضلات، ورغم أن الحفريات لم تسفر عن أي أدلة مادية تربط المستوطنين الجدد بالقبائل العبرية فقد أصر التوراتيون على أن السمات المادية التي إتسمت بها هذه المستوطنات هي سمات إسرائيلية، لماذا هي إسرائيلية؟ لا إجابة إلا أن اليهود ينبغي أن يكونوا قد دخلوا في هذا التوقيت، وهو إستدلال يخلو من المنطق، لكن أنصار نظرية التسلل السلمي إرتاحوا له وروجوا لفكرتهم التي إنتشرت بسرعة، ثم ما لبثت أن تلقت ضربات موجعة من نتائج البحث الأثري الذي نشطت السلطات الإسرائيلية نفسها للقيام به منذ قيام الدولة، وزادت وتيرته بعد 1967.
إتضح أن السمات التي زعموا أنها إسرائيلية، البيوت ذات الغرف الأربع والأواني الفخارية ذات الأحرف المقلوبة، وغيرها، موجودة أيضا في مواقع أخرى يعترفون بأنها لم تكن إسرائياية في يوم ما، بل وموجودة قبل القرن 13 ق م بعدة قرون، إنها إذن سمات كنعانية بغير شك وليست إسرائيلية، وللخروج من هذه الورطة إقترحوا أن اليهود قد إقتبسوا هذه السمات من السكان الأصليين (كده وخلاص) رغم أن التراث اليهودي يصر بشدة على أنهم كانوا يعيشون دائما في عزلة عن السكان الأصليين حتى لا يتلوثوا بثقافتهم الوثنية، أو كانوا في حالة حروب متصلة معهم (فقد إضطرتهم الأسفار نفسها للتنازل عن فكرة أنهم أبادوا السكان الأصليين عند دخولهم، فسفر القضاة – التالي مباشرة ليشوع - يذكر معارك متواصلة لم تهدأ حتى بعد قيام المملكة) .. ولا تفهم لماذا يدورون حول النتيجة الواضحة، إذا كانت الآثار كنعانية فينبغي أن تكون للكنعانيين.
أخيرا قام بعض نقاد القصص التوراتية بإجراء الحسابات، فوفقا لسفر التكوين كان عدد أحفاد يعقوب (ع) الذين دخلوا مصر بدعوة يوسف (ع) هو 56 فردا، وبما أن موسى (ع) كان من أحفادهم، فهو موسى بن عمران بن قهات بن لاوي بن يعقوب، فالذين خرجوا من مصر هم بقايا الجيل الخامس مع أولادهم، والذين دخلوا فلسطين بعد فترة التيه في سيناء هم الجيل السابع وبقايا من الجيل السادس، فكم كان عددهم؟ .. لابد أنه كان بين 3000 و4000 نسمة، وهو لا يكاد يكفي لسكن قرية واحدة صغيرة لا تترك أثرا يذكر يدل على طبيعة سكانها، وإستنتج هؤلاء النقاد ألا جدوى من البحث الأثري أو التاريخي .. لا يمكن تحديد زمان ومكان دخول اليهود إلى فلسطين.
توجد بعض الشواهد الأثرية الضعيفة على قيام دويلة صغيرة ربما حملت إسم إسرائيل في القرن 9 ق م (وهي التي يقول كتبة الأسفار أنها نتجت عن إنقسام المملكة الموحدة بعد وفاة سليمان)، وقد قضى الأشوريون على هذه الدولة سنة 719 ق م وسبوا أهلها، المشكلة هي أنه لا يوجد ما يربط هذه الدويلة باليهودية، فقد كانت دولة وثنية تنتشر فيها عبادة الآلهة الكنعانية، وهذا هو نفس حال الدويلة التي كانت حول القدس وحطمها نبوخذ نصر عام 586 ق م وسبى أهلها أيضا، لا يوجد بالطبع ما يمنع من إفتراض أن سكان هاتين الدولتين كانوا من أصل يهودي ثم إرتدوا عن التوحيد وعبدوا الآلهة الكنعانية لذلك لم يتركوا آثارا يهودية، لكن نقاد القصص التوراتية يرون أن هذه فرضية متهافتة لا يسندها إلا حكايات الأسفار اليهودية، ولما كان الثابت أن هذه الأسفار كتبت في القرن 5 ق م أو بعده فلا حجة فيها، والأقرب عندهم هو أن من كتبوا هذه الأسفار كانوا يهودا جاءوا من بابل فعلا، لكن ليس بالضرورة أن أجدادهم كانوا يقيمون في فلسطين، وما سطروه في الأسفار كان مجرد تبرير أسطوري يواجهون به السكان الأصليين الذين إقتحموا عليهم أرضهم (كأن التاريخ يعيد نفسه وفقا لهذه النظرية) .. بناء عليه يذهب هؤلاء النقاد إلى أن أول ظهور مؤكد لمجتمع يهودي في فلسطين لا ينبغي أن نذهب به لأبعد من القرن 5 ق م، وأول كيان سياسي يهودي هو دولة المكابيين التي أزالها إستيلاء الرومان على فلسطين في القرن الأول ق م.
نحن لا نبالغ إذن عندما نقول أن ظهور اليهود في فلسطين يتسم بالغموض الشديد من حيث أسلوبه، وتوقيته، وحجمه.
بقيت فرضية أخيرة لا تملك أية أدلة أثرية أو تاريخية، لكنها قادرة على التوافق مع معطيات نصوص الكتاب والسنة، سنعرضها بإذن الله في المقال القادم.