منذ 11 شهور | 2762 مشاهدات
يشوع بن نون هو فتى موسى (ع) وخليفته في قيادة بني إسرائيل لدخول فلسطين، وسفر يشوع هو السادس بعد أسفار موسى الخمسة، وهو مخصص لحكاية الفظائع التي قاموا بها، والتي إرتكبت كلها بأوامر مباشرة من الرب، ونصوصه تقطع بأن كاتبه لا يمكن أن يكون يشوع ولا أي معاصر له، فتجدها تصف موته والمناحة عليه، وتحكي عن حجر سد به كهفا أو رجمة من الأحجار أقامها تذكارا، وتقول أنها مازالت موجودة حتى اليوم (يوم كتابة السفر)، وللعلماء إقتراحات كثيرة بشأن الكاتب، لا تهمنا هذه الإقتراحات، فقد ثبت أن الوقائع التي يقصها لا يمكن أن تكون قد حدثت.
تبدأ القصة بنسخة مكررة من معجرة موسى (ع)، إذ تنفلق مياة نهر الأردن وتقف لتسمح لبني إسرائيل بالعبور مقابل مدينة "أريحا"، ليبدأ تنفيذ خطة الإقتحام التي تكلم بها الرب مباشرة إلى يشوع، يسيرون حول سور المدينة والكهنة يحملون التابوت وينفخون في الأبواق حتى يكملوا دورة كاملة ثم يعودون لمعسكرهم، ويكررون هذه المسيرة لستة أيام، وفي اليوم السابع يدورن سبعة دورات ثم يضرب الكهنة بالأبواق ويهتف الشعب كله هتافا عظيما فينهار السور ويدخل الشعب أريحا ويحرم بالسيف (يقتل) كل ما فيها من رجل وإمرأة، ومن طفل وشيخ، حتى البقر والغنم والحمير، ثم يحرقوا المدينة بالنار.
ثم يسير بنو إسرائيل إلى مدينة أخرى محصنة إسمها "عاي" تبعد عدة كيلومترات غرب أريحا، ويتبع يشوع هنا خطة أخرى، إذ يقسم الجيش إلى قسمين، يختبئ الأول شمال المدينة، بينما يقترب منها الثاني ليتظاهر بالهزيمة والإنسحاب، فيخرج جيش المدينة ليطارد الفارين، وهنا يخرج القسم الأول من مخبأه ويدخل المدينة ويستولي عليها بغير قتال, ليبيدوا أهلها ويحرقوها، غير أنهم في هذه المرة يحتفظون لأنفسهم بالغنم والبقر والحمير.
خافت باقي ممالك كنعان، فتحالف ملوك خمس مدن في وسط فلسطين وخرجوا لملاقاة يشوع، فقال الرب ليشوع: لا تخف لأني سأسلمهم لك .. فهاجمهم بغتة، فأزعجهم الرب أمام إسرائيل وضربهم ضربة عظيمة .. وفي هذا اليوم وقفت الشمس في كبد السماء ولم تعجل بالغروب ليوم كامل ليتمكن بنو إسرائيل من إبادة أعدائهم.
وتمضي القصة لتصف إستمرار بنو إسرائيل في إنتصاراتهم حتى إستولوا على وسط وجنوب فلسطين، ثم يعود يشوع ليواجه تحالفا آخر في شمال فلسطين يتزعمه ملك مدينة "حاصور" الحصينة، جيوش جرارة إجتمعت عند مياة ميروم، فهزموهم شر هزيمة وطردوهم شمالا، ثم عادوا إلى حاصور ليكرروا عملية إبادة السكان وحرق المدينة بالنار.
بخلاف مدينة القدس وبعض الممالك في أقصى الشمال إستولى بنو إسرائيل على كل فلسطين .. 31 مملكة وردت أسماؤهم في الإصحاح 12 من السفر .. هذه القصة التي لم يذكرها أي مصدر آخر ظلت هي الرواية المعتمدة لإستيلاء بني إسرائيل على أرض كنعان، حتى بدأ علماء الآثار في إكتشاف آثار الحضارات القديمة، المصرية والبابلية والسورية والكنعانية واليونانية، ففقد سفر يشوع كل مصداقية.
بحساب الأزمان الواردة في الأسفار يكون الغزو قد وقع في القرن 15 ق م، لكن بعد معرفة التاريخ الحقيقي لمنطقتنا لم يعد من الممكن القبول بهذا التاريخ، ففي القرن 15 ق م قام تحتمس الثالث بمد حدود الإمبراطورية المصرية إلى نهر الفرات، وظلت مصر تبسط نفوذها بقوة على فلسطين حتى عهد رمسيس الثالث في أواخر القرن 13 ق م، بإستثناء العقدين اللذين حكم فيهما إخناتون وإنشغل بثورته الدينية، هذه الحقائق دعتهم لتأجيل الغزو إلى نهاية القرن 13 ق م.
بدأ التشكيك في سفر يشوع مع حركة نقد النصوص الكتابية في عصر النهضة، فالأردن نهر صغير لا يحتاج عبوره إلى معجزة، بالذات في المنطقة المقابلة لأريحا حيث توجد أماكن عديدة يمكن للرجل العبور منها دون أن تصل المياة إلى منكبيه، وفي موسم إنخفاض المياة يمكن للطفل العبور سيرا على قدميه، أما معجزة وقوف الشمس ليوم كامل فتبدو عسيرة على التصديق، لا لأننا لا نؤمن بالمعجزات، لكن لأن هذه معجزة يجب أن يراها كل سكان الأرض، ومن غير المعقول ألا يسجلها أي شعب، والأهم هو أن الشمس لا تحتاج للتوقف، فالأرض هي التي يجب أن تكون قد توقفت عن الدوران، ولو حدث هذا لسبب كوارث مهولة في كل مكان، تخيل قطارا يسير بسرعة 100 كم\ساعة، ما الذي سيحدث داخله عندما يبطيء فجأة؟ فما بالك بسطح الأرض الذي يدور حول محورها بسرعة 1600 كم\ساعة .. على أي حال يمكننا تفهم موقف الذين رفضوا هذا النقد تأسيسا على أن القدرة الإلهية لا تحدها حدود، لكن الأمور تغيرت عندما بدأ علماء الدراسات التوراتية في القيام بحملات التنقيب عن آثار فلسطين بحثا عما يؤيد الروايات "المقدسة".
بينت الحفريات في موقع أريحا أن المدينة يرجع تاريخها إلى عشرة آلاف سنة، وكان لها أسوار ترتفع لتسعة أمتار وبسمك مترين، وإتضح أن هذه الأسوار قد تحطمت ثم أعيد بناؤها عدة مرات حتى تحطمت أخيرا في القرن 16 ق م – ثلاث قرون قبل يشوع – ولم يعد بناؤها بعد ذلك على الإطلاق، ليس هذا وحسب، بل أن المدينة في القرن 13 ق م كانت مهجورة لا يسكنها أحد كي يقتلهم بنو إسرائيل.
أما "عاي"، ثاني المدن التي يقول السفر أنهم أبادوها وحطموها وحرقوها، فقد أظهرت الحفريات أنها كانت قد تحطمت – هي الأخرى – أحد عشر قرنا قبل يشوع، ولم يبدأ السكن فيها إلا بعد قرن من يشوع، عندما بدأت قرية صغيرة تنمو في الموقع، وأكدت الحفريات في المواقع التي يقول السفر أنها كانت لمدن سقطت في القرن 13 ق م نفس النتيجة، كلها كانت إما غير مأهولة في ذلك الزمن، أو أنها كانت مأهولة بسكان إستمروا فيها بلا إنقطاع لقرن كامل على الأقل بعد يشوع.
في العقود الأخيرة بات كل المؤرخين وعلماء الآثار يجمعون على أن سفر يشوع لا يحوي أي معلومات تاريخية، وأفضل ما يمكن قوله عن الأحداث التي يرويها هو أنها لحروب قامت بين المدن الكنعانية في أزمان قديمة مختلفة سابقة على وجود اليهود في فلسطين، إنتحلها الذين كتبوا هذا السفر في القرن 5 ق م (عزرا أو غيره) ليزوروا عمقا تاريخيا لوجودهم.
كيف إذن ومتى ظهر المجتمع اليهودي في فلسطين؟ .. توجد العديد من "المقترحات" نعرضها بإذن الله في المقال القادم.