منذ 12 شهور | 2812 مشاهدات
يعتمد المؤرخون لإسرائيل القديمة على قصص التوراة ويثقون فيها، نشأت هذه الثقة في البداية من الإيمان بالمصدر الإلهي، بعضهم ذهب إلى أنها نصوص موحى بها من الله دونها الأنبياء، ويرى آخرون أن الأفكار والمعاني هي التي وصلت بالإلهام، أما النصوص فقد صاغها كل نبي حسب أسلوبه وثقافة عصره، لكن في العقود القليلة الماضية صار معظم علماء النقد الكتابي ينكرون المصدر الإلهي لهذه النصوص، يستندون في ذلك إلى ما تزخر به من تناقضات صارخة وأخطاء علمية وجغرافية لا يمكن قبولها من رجال من المفترض أنهم يستقون معلوماتهم ممن يعلم كل شيء (طبعا يبذل الكهنة ةاللاهوتيون جهودا هائلة لتبرير ما يعتبرونه مجرد "صعوبات في النص")، اما علماء التاريخ التوراتي فيحاولون الخروج من هذا المأزق الذي ينسف الصورة التي بنوها لإسرائيل القديمة بالقول بأن إثبات المصدر الإلهي للنصوص ربما يكون ضروريا عند تناول ما تحوية من عقائد وشرائع، أما بالنسبة لعملهم كمؤرخين فتكفي الثقة في أن المعلومات الواردة في هذه الأسفار قد كتبها رجال أمناء وصادقون كانوا معاصرين للأحداث التي يصفونها، ولذلك فهي تصلح لبناء تصور واضح وصحيح عن تلك المراحل التاريخية، على الأخص في ما يتعلق بالفترة التي صاحبت قيام دولة داود وسليمان وما تلاها .. وهو في الواقع كلام متهافت تنقضه الأسفار نفسها.
يحكي سفر الملوك الثاني في الإصحاح 34 كيف كانت التوراة قد إختفت ماديا ومعنويا قبل أواخر القرن 7 ق م (7 قرون على الأقل بعد وفاة موسى (ع))، ليس فقط لم يكن لديهم ولا نسخة واحدة منها، بل أن حياتهم كانت منغمسة في الممارسات الوثنية دون أن يدركوا أنهم قد إنحرفوا عن دين موسى (ع)، وأثناء ترميم الهيكل عثروا على نسخة من سفر التثنية (خامس الأسفار المنسوبة لموسى (ع)، يحوي إعادة سرد للأحكام والشرائع المبثوثة في الأسفار الأربعة الأولى)، فسارع الكاهن الأكبر "حلقيا" بإرسالها إلى الملك يوشيا، وهو ملك يصفه ذات السفر بأنه كان يخاف الله، ومع ذلك فقد إكتشف الملك بعد أن قرأ المدون في السفر أنه هو وآباءه وكل الشعب كانوا بعيدين جدا عما هو مكتوب، فمزق ثيابه من هول المفاجأة، كأنه لم يكن قد سمع هذا الكلام من قبل، وشرع من فوره في عملية تصحيح الأخطاء، والتى كان أهمها إزالة الأصنام والأوثان ومذابح عبادة بعل والشمس والقمر والكواكب المنتشرة في كل أرجاء المملكة، وحرق المرتفعات التي يزعمون أن سليمان كان قد بناها لعبادة عشتار وكموش ومولك (آلهة كنعانية)، وبعدها بثلاث عقود (عام 586 ق م) تعرضت مدينة أورشليم للتدمير الكامل على يد البابليين، وهدمت كل المباني المهمة ومنها الهيكل وقصر الملك والمباني العامة وضاعت كل وثائق المرحلة الملكية، وقام نبوخذ نصر بسبي العائلة المالكة والقادة السياسيين والكهنة والأعيان والحرفيين إلى بابل، ولم يبق في فلسطين إلا غمار الناس ومساكينهم، ثم تغيرت الظروف السياسية في بابل وسمح لليهود بالعودة إلى فلسطين بعد ثمانية عقود من السبي، ليقوموا بإعادة بناء الهيكل وكتابة الأسفار.
توضح هذه الرواية التي وثقها هؤلاء الذين أعادوا كتابة الأسفار المقدسة السابقة على السبي البابلي أن اليهود لم يكن لديهم أي وثائق مكتوبة عن الأحداث التي جرت لبني إسرائيل قبل السبي، فقد دمرت كل وثائق البيروقراطية الملكية وسجلاتها، إختفت من قبلها وبطريقة لم يذكروها الأسفار المقدسة، بل ونسوا كل ما فيها ولم يعودوا يذكرونه، فإذا كانوا قد نسوا أهم الشرائع، التوحيد، ووضعوا الرموز الوثنية في كل مكان تحت سمع وبصر الحكام والكهنة، فمن باب أولى أن يكونوا قد نسوا تفاصيل الأحداث التي وقعت على مدار أكثر من ألف عام منذ دعاهم يوسف (ع) إلى مصر حتى أخرجهم نبوخذ نصر من فلسطين، ربما كانت لديهم روايات شفهية يتسامرون بها عن تاريخ الآباء، كما يحلو لنا السمر بسير الزير سالم وأبو زيد الهلالي وعنترة العبسي وغيرهم، فكل الشعوب تحتفظ في ذاكرتها بمثل هذه الروايات عن بطولات الأسلاف، لكنها دائما ما يختلط فيها ما هو حقيقي بما هو متخيل، ما حدث فعلا مع ما تمنى الرواة أنه كان قد حدث، ما هو صادق بما هوكاذب، ودائما ما يكون فيها مبالغات في تصوير بطولة الأبطال (أو إختلاقهم من الأصل) وشر الأشرار (حتى يكون للبطولة مذاق أحلى).
لا يوجد إذن أي سند لزعم المؤرخين التوراتيين بأن من كتبوا هذه الأسفار كانوا معاصرين للأحداث التي كتبوا عنها، وعليهم أن يعودوا لتبني فكرة أن الكتابة كانت بالوحي أو الإلهام حتى يمكنهم الإستمرار في تبني حكايات اليهود الأسطورية عن تاريخ يكذبه التاريخ، ونحن في حاجة لعرض أكثر تفصيلا لملابسات إعادة كتابة التوراة، لأن مفسرينا، للأسف، يسردون روايات لا أصل لها في توثيق المصدر الإلهي لنصوص التوراة العبرية .. في المقال القادم بإذن الله.