منذ 1 سنة | 2762 مشاهدات
أنت غالبا، مثلي، قد سمعت عبارة أن "اليهود كانوا هم مسلمي عصرهم"، ولعلك، مثلي، قد خرجت بإنطباع أنهم كانوا جزيرة التوحيد وسط بحر الوثنية، وأن حروبهم كانت حروبا بين الإيمان والكفر، وإنتصارهم هو الذي قضى على الوثنية في فلسطين .. هذا المقال يريد أن يوضح خطأ هذه الفكرة، لم يكن سكان فلسطين الأصلينن كلهم وثنيين (تطلق أسفار اليهود إسم "فلسطينيين" على القبائل الفلستية، ونحن نستخدمه للدلالة على مجمل القبائل التي كانت تسكن فلسطين من فلستيين وكنعانيين وغيرهما)، ولم يطردهم بنو إسرائيل من أرضهم، فمنطقتنا في ذلك الزمان كانت تعج بالموحدين (هذا لا يستبعد وجود عدد من الوثنيات)، وحروب اليهود لم تكن كلها بين موحدين ومشركين، فالعديد منها كان حروبا دنيوية طرفاها على التوحيد، بالضبط كتلك التي دارت بين الأمويين والعباسيين، أو بين الأمراء المتغلبين من سلاجقة وأيوبيين وعثمانيين ومماليك وغيرهم ولم تقدح في إسلام أي منهم .. أجدادنا الذين عاشوا في زمن موسى ويوشع وداود وسليمان عليهم السلام لم يكونوا كلهم فاسدين مشركين فاسقين، ولم يقض عليهم بني إسرائيل ولا أخرجوهم منها كما تزعم الدعاية الصهيونية.
تستفيض المراجع الغربية الأكثر إنتشارا عن تاريخ اليهود في التأكيد على أن العناصر الأساسية في العقيدة التوراتية كانت "فريدة في نوعها"، وأن اليهودية "دين لم يكن له مثيل في العالم القديم"، وأنها كانت "طريقة جديدة ومختلفة جذريا عما سبقها في فهم الإله والطبيعة والإنسان، وكان هذا شيئا ثوريا حقا" (لهذا الكلام وقع شديد الغرابة على الأذن المسلمة)، وفي نفس الوقت يصفون السكان الأصليين لفلسطين بأنهم كانوا شعوبا فاسدة إستحقت الإبادة لمصلحة البشرية، فالديانة التوحيدية لليهود قد أنقذت أخلاقها التوحيدية العالية عن طريق إبادة هؤلاء السكان، أي أن إسرائيل كانت هي الواسطة الإلهية في تدمير حضارة فاسقة .. كأنهم يبررون للصهيونية ما تقوم به في العصر الحديث، أو يدافعون عن الممارسات الإمبريالية للحضارة الغربية من خلال محاولة البرهنة على صحة الفرضية اللاهوتية التي تزعم أن إسرائيل القديمة، وبالتالي وريثها الروحي – المسيحية – هي كيان فريد، متميز ومتفوق، في تاريخ الفكر الإنساني كله.
هذه الأفكار ليست من إختراع المعاصرين، بل يمكن إعتبارها فهما سليما لما سطره كتاب الأسفار اليهودية ونسبوه لأنبياء الله المكرمين، فهذه الأسفار تزعم أن الخالق لم يرسل أي رسول قبل موسى (ع)، فنوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب عليهم صلوات الله كانوا أبرارا صالحين لكن ولا واحد منهم كان معنيا بهداية البشر، ولم يتوجه الأنبياء بعد موسى لغير بني إسرائيل، أما الأقوام والشعوب الأخرى فلم تعرف الإله الحق، وأنبياؤهم كلهم أنبياء كذبة يدعون لآلهة لا تستحق العبادة .. اليهود هم الشعب الوحيد الذي عبد الإله الحق خالق السموات والأرض، هكذا يزعمون.
أما المسلمون فقد علمهم كتابهم وسنة نبيهم (ص) أن التوحيد كان دين آدم (ع) وجمع غفير من أبنائه (360 رسولا و120 ألف نبيا) و" .. وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِير"ٌ فاطر: 24 ، ولا يوجد ما يبرر الإنطباع السائد عند عوام المسلمين بأن بني إسرائيل كانوا في وقت ما هم وحدهم حملة عقيدة التوحيد .. فإذا كانوا هم وحدهم الذين إستجابوا لموسى (ع) فذلك لأنه لم يرسل إلا إليهم، أما الموحدون من باقي الأقوام فقد ظلوا مقيمين على التوحيد الذي جاءت به الرسل قبل موسى.
فالتوراة نفسها تحكي أن إيراهيم (ص)، أثناء عودته من حرب ناجحة، قابل في مدينة "شاليم" (القدس حاليا) كاهنا للإله العلي (ءل عليون) إسمه "ملكي صادق"، الذي كان في نفس الوقت ملكا علىى هذه الدويلة، الكاهن إستضاف إبراهيم، وإبراهيم إعترف به كاهنا لله وأعطاه عشر الغنائم .. كانت هذه الدويلة إذن تعبد ذات الإله الذي يعبده إبراهيم (ص).
ويحكي قدامى المؤرخين العرب أن أقواما كثيرة في بلاد الشام قد إستجابوا لدعوة إبراهيم حتى صار فيهم بارزا مرموقا "وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا .." فاطر: 124 (وفي رواية مشكوك فيها لكنها تعبر عن نفوذه: حكم إبراهيم دويلة دمشق)، لقد ولد إسحق (ع) بعد 25 سنة من وصول إبراهيم للشام، وولد يعقوب (ع) وعمر إسحاق 60 سنة، ثم عاش في الشام 130 سنة، لقد ظلت النبوة تقود الحياة الروحية لبلاد الشام لمدة 215 سنة كاملة، فكيف تتصور أن أثرها سيتبخر خلال أربعة أجيال فقط؟ (فهو موسى بن عمران بن قهات بن لاوي بن يعقوب).
أما سكان الجزيرة فنعلم أن "الحنيفية" راجت بينهم منذ بنى إبراهيم الكعبة ودعاهم للتوحيد، وإستمر من بعده إسماعيل (ع) نبيا ورسولا، دخلت قبائل جرهم وعماليق مبكرا على يد إبراهيم، وإستمر إسماعيل يجوب البلاد بدعوته حتى وصل إلى اليمن، وظل الحج إلى الكعبة – دعوة إبراهيم – هو الشعيرة الرئيسية لكل العرب، ومن المؤكد أن الكعبة كانت خالية تماما من الأصنام لمدة ألفي عام بعد إبراهيم (عمرو بن لحي هو الذي أدخلها بعد قرنين من بعثة المسيح (ع))، وهذا يعطيك فكرة عن البطء الشديد الذي تم به الإنحراف عن الحنيفية، فعلى مدار أربعين جيلا ظلت العبادة في الكعبة خالصة لله تعالى، فكيف تتصور أن العرب قد تركوا التوحيد بعد أربعة أجيال فقط من عصر إسماعيل؟
نعم كان موسى (ع) رسولا عظيما إلى بني إسرائيل، لكن أجدادنا لم يتبعوه لأنه لم يكن مرسلا إليهم، ولم يقل أحد أن المؤمنين من الآراميين، سكان سوريا ولبنان وفلسطين والأردن، كانوا قد إبتعدوا عن التوحيد الذي جاءهم به رسولهم الآرامي إبراهيم (ص)، ولا أن العرب إنحرفوا عن دين أبيهم إسماعيل (ع) .. لاحظ أن القرآن ذكر تكذيب قوم إبراهيم في وطنه، لكنه لم يذكر ذلك عن أهل دار هجرته، ولم يذكر أي تكذيب لإسماعيل أو إسحق أو يعقوب .. أجدادنا زمن اليهودية الأولى لم يكونوا كلهم وثنيون فاسدون يستحقون الإبادة (ولا كان اليهود كلهم موحدين مقيمين للشريعة)، وليس التعصب هو الذي يدفعنا لأنكار أن يكون اليهود قد أبادوا الفلسطينيين، وإنما تدفعنا نتائج التنقيب الأثري (الذي قامت به إسرائيل) والتي تؤكد عدم حدوث أي إنقطاع حضاري، كما سنعرض في مقالات تالية بإذن الله .. إستمرت القبائل الآرامية تعيش في فلسطين بمؤمنيهم ومشركيهم، أما اليهود فقد أقاموا دويلتين صغيرتين على المساحة التي تعرف الآن "بالضفة الغربية" ويسمونها يهوذا والسامرة، ولا يقدح صغر الكيان السياسي لليهود في مقام داود (ع) وسليمان (ع)، فالدول تكون بقدر مقام أهلها لا مقام أنبيائها.