منذ 1 سنة | 3015 مشاهدات
التفسير – كالفقه – علم منضبط لا ينبغي أن يتهجم عليه غير المتخصصين، فبالإضافة لمعرفة الأصول والقواعد يمتلك المتخصص من طول علاقته بالنصوص خبرة في سبر أغوار المعاني، ونحن، العوام غير المتخصصين في العلوم الشرعية، لا يجوز لنا أن نحكم على أقوال المفسرين أو آراء الفقهاء، وعندما يختلفون فإن الواحد منا يتبع الرأي الذي يرتاح له دون أن يتعدى ذلك إلى تخطئة أي من الآراء الأخرى، غير أن بعض أقوال المفسرين والفقهاء كما يستند على قواعد علمية شرعية فإنه يعتمد على معارف دنيوية، كالطب والفيزياء والإقتصاد .. إلخ، وهي معارف مردها إلى الحس والتجربة والخبرة العملية، وعلماؤها هم أهل الذكر فيها، ويرجع علماء الشريعة إليهم ويبنون فتاواهم وتفسيراتهم على ما توصل إليه العلم الدنيوي إن كان هو موضوعها، فعندما يأخذ الشافعي (رض) بأقوال أطباء عصره فيبني بعض الأحكام الفقهية على فكرة أن الجنين يمكنه أن يبقى في بطن أمه أربع سنوات ويولد سليما فلا تثريب علينا في القول بوجوب إعادة النظر في هذه الأحكام عندما يتضح لعلم الطب الحديث أن مدة الحمل لا يمكن أن تتجاوز السنة الواحدة، وغير هذا كثير في الفقه والتفسير.
لجأ المفسرون إلى معارفهم الدنيوية – التي كانت قاصرة بالطبع – في فهم وتفسير الآيات المتعلقة بالظواهر الطبيعية، وقادهم هذا في كثير من الأحيان إلى فهم غير سليم، أنظر مثلا إلى تفسير الآية " وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ" يس: ٣٨، ستجدهم يتحدثون عن الجريان بإعتباره حركة الشمس الظاهرية حول الأرض، ونحن نعلم الآن أن الآية تتكلم عن دوران الشمس حول مركز المجرة، ظلت الآية صادقة لكن التفسير لم صحيحا، ونشأ حول هذا الموضوع عدد من المباحث المستقلة تحت عنوان "الإعجاز العلمي للقرآن" .. لا أحد يلوم الفقهاء والمفسرين على مثل هذه الأخطاء الناتجة عن قصور علوم عصرهم طالما كان هؤلاء العلماء ملتزمين بالمناهج العلمية في التفسير والإستنباط، للمخطيء أجر وللمصيب أجران، لكن الإستدلال بالنقول والروايات الإسرائيلية أمر آخر، فقد علمهم التنزيل الحكيم أن هؤلاء ".. يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا .." البقرة: 79 فكيف وثقوا بروايتهم؟
صح عنه (ص) أنه قال "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج"، وقال أيضا "لا ثصدقوهم ولا تكذبوهم"، والمعنى واضح، النقول عن بني إسرائيل لا تصلح للإستدلال، وإنما نتناولها فقط لندرس كيف نجادلهم في ما يزعمون .. هذا ما فهمه العلماء: ما وافق ما عندنا قبلناه (والإستدلال هنا ليس بنقولهم ، وإنما بنصوصنا)، وما تعارض مع ما عندنا رفضناه ولا كرامة، أما ما لا نجد عندنا ما يؤيده ولا ما يعارضه فلا نحكم عليه، قد يكون فعلا من تراث الأنبياء، أو يكون منحولا عليهم، ومع ذلك نجد كبار المفسرين يذكرون مرويات من الصنف الثالث، صحيح أنهم يوردونها بصيغة التمريض، فيسبقونها ب"قيل" أو "روي عن" التي تفيد عدم القطع بالصحة، لكن المسلمون يقرأونها بإعتبارها من المعاني المرادة للتنزيل، خاصة وأن أغلب الدعاة وخطباء الجمعة يرجعون إليها كأنها من التفسير.
في بعض الحالات لا يكون في سلوكهم هذا كبير ضرر، فمثلا عندما يقول القرآن "أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .." [البقرة: 246] فإنهم ينقلون عن التوراة أن إسمه كان "صموئيل"، سواء كان هذا إسمه أم لا فلن يؤثر ذلك على العبرة التي يستهدفها الوحي، لكن في أحيان كثيرة يكون المنقول مجرد إعادة صياغة لبعض الأساطير البابلية، وعندما يتقدم العلم البشري ونكتشف خطأ النص الإسرائيلي يجد المسلم، الذي ظن أن هذا هو تفسير كتاب الله، نفسه في حرج بالغ، أما في ما يتعلق بقضية المسلمين الأهم في العصر الحديث، الصراع على أرض فلسطين، فإن مفسرينا وكتاب قصص الأنبياء يتبنون الرواية الإسرائيلية في كل المسائل الحاسمة التي تبني عليها الصهيونية مزاعمها عن الحق التاريخي، من أول إتهامنا نحن أبناء وادي النيل بالفرعنة وإضطهاد بني إسرائيل، ثم إستيلائهم على أرض فلسطين بقيادة يوشع بن نون، ثم تأسيس داود (ع) لإمبراطورية يهودية عظيمة عاصمتها القدس، وبناء سليمان (ع) للهيكل على أرض المسجد الأقصى، ثم توثيق حكاية أن عزرا الكاتب قد أعاد كتابة التوراة بعد أن فقدوها تماما بوحي من الله، وغيرها من التفاصيل الأقل أهمية، وتصبح بذلك سيطرة اليهود على أرض فلسطين من القرن 15 ق م إلى القرن الأول الميلادي من مسلمات التراث الإسلامي (مع أن نصوص الوحي لا تقدم لنا ما يؤكد شيئا من ذلك، بل تقدم ما ينفي بعضه، لو فهمناها بعيدا عن الروايات الإسرائيلية).
ربما ترغب في أن تجد عذرا لعلمائنا الأجلاء عندما تبنوا الروايات الإسرائيلية الملفقة لتفسير نصوصنا الصادقة فأعطوها مضامين تتعارض مع ما نعرفه اليوم عن تاريخ منطقتنا، مهما كان عذرهم فقد أثرت تفاسيرهم تأثيرا كبيرا في تشويه وعي المسلمين، ليس فقط بتاريخنا وهويتنا الحضارية قبل الإسلام، ولكن أيضا في فهم سنن الله في الإجتماع البشري.
الحال اليوم هو أن المكتشفات الأثرية ووثائق الحضارات القديمة دعت العديد من كبار المؤرخين المتخصصين في تاريخ منطقتنا لإنكار رواية التوراة عن أي غزو مسلح قام به العبرانيون واستولوا من خلاله على أرض فلسطين في أي وقت من الأوقات، وأن فلسطين لم تقم بها أي دولة مركزية خلال العصر الحديدي (يمتد من 1200 إلى 800 ق م، وهم يزعمون أن داود (ع) أقام الإمبراطورية حوالي 1000 ق م)، وأن القدس لم تكن عاصمة لأي دولة قبل القرن 8 ق م (يعني لم تكن عاصمة لمملكة داود وسليمان حتى لو كانت دولة صغيرة وليست إمبراطورية)، كما لم يتمكن الصهاينة بكل تنقيباتهم بعد 1967 تحت المسجد الأقصى من العثور على أي أثر لهيكل سليمان، بل وصل بعضهم للقول بأنه لا يوجد أي أساس للزعم بوجود دولة إسرائيلية موحدة من أصله .. بالطبع لم يعجب هذا الكلام كل من اليهود والمسيحيين لأنه مثل طعنا في مصداقية كتابهم المقدس، أما المسلمون فقد أداروا وجوههم بعيدا عنه لظنهم أنه يطعن بالمثل كتابنا، وهذا غير صحيح على الإطلاق، إنه يطعن فقط في ما أوردته كتب التفاسير، لكنه يساعدنا على تقديم تفسير أفضل لبعض النصوص التي إحتاج القدامى للف والدوران حولها، هو بالطبع يقدم لنا خدمة كبيرة في صراعنا مع الصهيونية، وسنحاول في المقالات التالية بإذن الله ان نشرح مقولات هؤلاء المؤرخين مع توضيح تناغمها التام مع نصوصنا، عسى أن تكون هذه بداية لإنتاج خطاب إسلامي قادر على إثبات زيف ما يقال أنه تاريخ لليهود في فلسطين، بدلا من محاولات دحض ما يزعمونه من حق ناتج عن تاريخ مزور وأحداث لم تحدث، والله غالب على أمره.
احمد عبد الله احمد || ahmedabaallahelect@gmail.com
جزاكم الله خيراً