منذ 1 سنة | 2477 مشاهدات
الوعي بالتاريخ واحد من أهم عناصر بناء الهوية القومية، لذلك تحرص كل الأمم على نشر تاريخها وتعليمه لأبنائها منذ الطفولة، لكن الصهاينة يتملكهم هوس غير عادي تجاه تاريخ اليهود لدعم فكرة حقهم التاريخي في فلسطين، فقطاع كبير من الجماهير الغربية باتت لا تعير بالا لمسألة الوعد الإلهي ونبوءات آخر الزمان، كثير من المسيحيين المعاصرين يرفضون التفسير الحرفي لأسفار اليهود بسبب ما تزخر به من تناقضات داخلية وأخطاء علمية فادحة وأساطير بابلية وأحيانا خرافات لا أصل لها، ولا يمكنهم الإستمرار في تقديس هذه الكتب إلا إذا إعتبروها مجرد كتابات رمزية لا يؤخذ منها إلا المواعظ الأخلاقية، أما العالمانيون فإنهم ينحون كل النصوص الدينية جانبا، ومع ذلك يعترف جميعهم بأن التعاليم المسيحية ما زالت تعشش في وجدانهم وتهيمن على ثقافتهم، وهذه المسيحية نبتت في تربة يهودية وإمتصت الكثير من عناصرها، ولا يمكن فهم اليهودية بدون معرفة تاريخ العبرانيين، فتاريخ اليهود على أرض فلسطين لا يعد بالنسبة للغربيين تاريخ شعوب أخرى، بل هو جزء من تاريخهم، وهم يتعلمونه منذ الصغر ويتخذون من أبطاله أبطالا قوميين لهم.
تحكي التوراة الحالية تاريخ فلسطين كما لو أن كل الشعوب الأخرى التي عاشت على هذه الأرض كانت فاسدة وشريرة وهمجية .. العبرانيون هم الشعب الوحيد صاحب الإنجاز الحضاري والأخلاقي الذي يعطي لفلسطين قيمة في التاريخ، أما باقي الشعوب فليست إلا كومبارسات لم توجد إلا ليتمجد الشعب المختار بهزيمتها، أدى ذلك إلى تزوير واسع النطاق في التاريخ القديم لمنطقتنا، برغم كل الحقائق التي كشفت عنها التنقيبات الأثرية الحديثة والجهود التي بذلها علماء راسخون في تفنيد القصص لتي تحويها أسفار اليهود، مازال أغلب المؤرخين يتبنون التاريخ التوراتي، حتى أنهم يقومون بمغالطات وتلفيقات جسيمة ليرغموا نتائج البحث العلمي والتنقيب الأثري على التوافق مع أساطير اليهود وحقهم التاريخي (لا تجد أحدا يفعل هذا بتلك الدرجة إلا عندما يقوم الملحدون بلي إعناق نتائج البحث العلمي لتتوافق مع الداروينية الحديثة).
أعادت أحداث الحرب على غزة الصراع مع الصهيونية إلى بؤرة الإهتمام، فبدأ الكثيرون في التساؤل عن حقيقة التاريخ البهودي في فلسطين ومدى صحة المزاعم الصهيونية، فطفت على السطح مشكلتنا مع هذا التاريخ المزور، فأغلب مانسمعه من مفكرين ودعاة ينتمون إلى المعسكر الإسلامي – ناهيك عن المفكرين الغربيين - ليس "تاريخا"، إنما هو إعادة سرد لبعض الأساطير والتلفيقات الإسرائيلية، يرويها أحيانا من لا نشك في إخلاصهم (عبد الله الشريف من أهم الأمثلة)، فيبدو لمن يسمعهم أننا نقبل فكرة إمتلاك اليهود لتاريخ فلسطين منذ العصور القديمة حتى أجلاهم الرومان منها في القرن الأول الميلادي، وأننا لا نمتلك التاريخ على هذه الأرض إلا منذ الفتح الإسلامي، وفي هذا الإطار يغدو النقاش حول أصل المشكلة مجرد جدل فلسفي: هل يحق للصهاينة المطالبة بالعودة إلى وطنهم الذي إنتزعه الرومان منهم، أم أن الوجود الإسلامي في فلسطين على مدى ثلاثة عشر قرنا يجب هذا الحق (الصهاينة يدعون أنهم إمتلكوا فلسطين لفترة أطول، خمسة عشر قرنا)، وهذا الجدل يسمح للضمير الغربي (ونحن لا ننكر وجود هذا الضمير عند الشعوب) أن يظل متقبلا لدعم وجود الدولة اليهودية، لا تؤرقه إلا المشكلة الإنسانية، فهم ينتفضون مطالبين بحماية أرواح الفلسطينيين، دون أي إشارة لحقهم المغتصب.
لماذا يستسلم المسلمون لمزاعم اليهود عن ملكيتهم لفلسطين قبل الشتات الروماني؟ لماذا لا يدفعون بأن الوجود اليهودي كان مجرد وجود هامشي على جزء صغير وسط محيط فلسطيني عربي دائم ومستمر منذ ما قبل التاريخ حتى اليوم؟ .. السبب هو أننا تعلمنا في كتب التفسير وقصص الأنبياء أن نصدق التاريخ التوراتي: التسليم بأن الذين خرجوا مع موسى (ع) دخلوا أرض فلسطين في القرن 15 ق م وإستولوا عليها كلها عنوة بقيادة يوشع بن نون وعاشوا فيها إلى أن أسس لهم داود (ع) إمبراطورية إمتدت من ساحل البحر الأبيض حتى شاطئ نهر الفرات، وعانى كيانهم السياسي في فلسطين من دورات مد وجزر لكنهم ظلوا هم أهل فلسطين حتى بعثة المسيح (ع)، وأنهم طوال هذه الحقبة كانوا يسيطرون على بيت المقدس وأقام فيه سليمان (ع) هيكلهم المقدس الذي هدمه نبوخذ نصر ثم أعادوا بناءه بعدها بثمانية عقود إلى أن هدمه الرومان بعد رفع المسيح (ع) .. وعندما يأتي مؤرخون كبار ليقولوا – إستنادا إلى وثائق الحضارات القديمة ولقى أثرية إستخرجت من أراضيها - أن هذا لم يحدث، أو لم يحدث بهذه الطريقة، يتملكنا نحن المسلمون هاجس أن يكون هذا مجرد دعاية إلحادية للطعن في ما تعلمناه من تراثنا الإسلامي، ولم يخطر ببالنا أن ما يقولونه قد يكون صحيحا، وأنه لا يتعارض مع نصوص الكتاب والسنة، وأن كتب التفسير وقصص الأنبياء هي التي أخطأت بسبب إعتمادها على روايات إسرائيلية لا سند لها.
إن إعادة كتابة تاريخنا إستنادا إلى آيات القرآن وأحاديث الرسول (ص) الصحيحة وكتابات المؤرخين العرب القدامى بعد تمحيصها وتنقيتها من الخرافات وعلى وثائق حضاراتنا القديمة في العراق وسوريا ومصر والمكتشفات الأثرية في منطقتنا وفي فلسطين بالذات ليس ترفا علميا، بل هو مهمة ملحة على محور الصراع الفكري والحضاري في جهادنا لإسترداد الأرض المقدسة، لن أتناول مسائل النقد الكتابي ومقارنة الأديان (مصداقية وموثوقية النصوص وصحة نسبتها إلى الوحي الإلهي)، ولن أناقش عقائد أهل الكتاب، فقد قطع أخوة أفاضل شوطا بعيدا في هذا المضمار، وإذا كنت راغبا في الإطلاع على هذه المسائل فإنني أزكي حلقات الأستاذ محمد شاهين التاعب والدكتور منقذ السقار، أما موضوعي فهو تزوير التاريخ لإعطاء اليهود حقوقا ليست لهم .. لن أشغل القارئ بالروايات البديلة التي يطرحها مؤرخون يرفضون الرواية التوراتية، لكني سأعمل على عرض الحقائق التي يستخدمونها للتدليل على زيف الرواية التوراتية، وأوضح أن نقدهم هذا لا يقدح على الإطلاق في نصوصنا، بل أنه على العكس، يساعدنا على تقديم تفسيرات أكثر إتساقا مع النصوص مما نجده في روايات المفسرين، وعلى الله قصد السبيل.