منذ 1 سنة | 2623 مشاهدات
بعض الناس يطنطن بأن مصر عانت وضحت وخاضت حروبا من أجل فلسطين والفلسطينيين، ويقولون أنه قد آن الأوان لنتخفف من هذا العبء ونلتفت إلى مشاكلنا، هذه الأفكار لم تكن لتخطر لأبناء جيلي الذين تربوا في الستينات على الفكر القومي العروبي الذي غرس فينا أننا جزء من أمة واحدة تعيش في وطن واحد يمتد من المحيط إلى الخليج، وأي عدوان على أي جزء منه هو عدوان علينا، تستوي عندنا أرض سيناء وبورسعيد والسويس والجزائر وعدن وفلسطين، وعندما تعرفنا على الفكر الإسلامي في السبعينات إتسع نطاق الوطن ليشمل كل العالم الإسلامي، مع تمتع فلسطين بوضع خاص، ولذلك فإن جيلنا لم ينشغل كثيرا بالتساؤل عن المخاطر الجسيمة التي تتهدد مصالح مصر وأمنها القومي بسبب وجود دولة يهودية عدوانية توسعية في فلسطين، بالضبط كما لم نتساءل عن المخاطر الناجمة عن إحتلال سيناء، فالشعوب لا تحتاج لأسباب لإقناعها بضرورة تحرير أرضها المحتلة .. أما وقد ظهر من يفترض أن حروبنا كانت مجاملة لشعب شقيق يقطن في الجوار، فقد غدا من الضروري أن نذكرهم بوجود أسباب مجردة من أية أيديولوجية عروبية أو إسلامية تحتم علينا، حفاظا على مصالحنا الوطنية، أن نوجه كل جهدنا لإسقاط الدولة اليهودية في فلسطين .. لاحظ أن هذا لا يعني بأي حال أننا نريد أن نقذف باليهود في البحر، وإنما يعني أننا نريد إلغاء الصفة اليهودية للدولة والإعتراف بحق الشعب الفلسطيني العربي في العيش على أرضه التاريخية (حق العودة)، وأن يعيش من شاء من اليهود في فلسطين في دولة يحكمها أهلها دون تفرقة أو تمييز، وأن تخضع هجرة الأجانب، يهودا كانوا أو من أي ملة، لقواعد الهجرة التي يقررها أهل فلسطين (يحصل الآن أي يهودي على جنسية الدولة بمجرد وصوله) .. نحن ضد الصفة اليهودية للدولة والخصوصية التي يعطونها لليهود على أرضها، فهذا هو منشأ الخطر على مصالحنا وأمننا، بل ومستقبلنا.
قبل أن نسترسل يجب التأكيد على أن اليهودية ليست تهمة نطلقها، وإنما هو قرار للكنيست ومعه ترسانة من القوانين تعطي لليهود من أي جنسية حقوقا تحرم منها أصحاب الأرض الأصليين (عرب 48)، فرغم أنهم يحملون الجنسية ليست لهم كامل الحقوق التي لليهودي.
بدأ تغيير وعي المصريين بحقيقة الصراع عندما قرر أنور السادات أن يقبل بحل منفرد، فبدأ إعلامه يروج لفكرة أن هناك مشكلتين، واحدة تخصنا في سيناء، والأخرى تخص الفلسطينيين، وعندما نجد فرصة لحل مشكلتنا فعلينا أن ننتهزها، وسنظل بالطبع نساند جهود الفلسطينيين لحل مشكلتهم، وعندما أدان العرب هذا التوجه بدأ الهجوم على العرب الذين يريدون قتال إسرائيل حتى آخر جندي مصري، وأن مصر قد تحملت وحدها عبء المواجهة بينما تقاعس العرب .. إلخ (صحيح أن بعض العرب خان، وبعضهم تقاعس، لكن أغلبهم كان مشاركا)، المهم أن الكلام عندنا توقف عن الصراع العربي الإسرائيلي ولم نعد نعرف إلا الصراع الفلسطيني الإسرائيلي (بالضبط كما توقف الآن الحديث عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ولم نعد نسمع إلا عن الحرب على غزة).
دعونا إذن ننحي كل الإعتبارات، مؤقتا، ونقتصر على المصالح المصرية الضيقة.
بغض النظر عن مشاعر الإنتماء ووحدة التاريخ ووحدة المصير .. إلخ، سيقودك التحليل العلمي العقلاني الموضوعي لإدراك أن مصر لا يمكنها أن تحقق النهضة والتنمية والتقدم بمعزل عن إقليمها الواسع الذي تكون معه وحدة حضارية وثقافية مازالت متماسكة رغم كل محاولات التفرقة والتجزئة، بنفس المنطق الذي أدركت به الدول الأوروبية أهمية الوحدة رغم إختلاف شعوبها ثقافيا وحضاريا وعرقيا، ورغم تاريخ علاقاتها الدامي الذي تكلل بحربين عالميتين، وتزخر مكتبة جامعة الدول العربية بعدد مهول من الدراسات العلمية الجادة التي تثبت عجز كل قطر من الأقطار عن حل مشكلاته العويصة، وتوضح كيف يمكن للتنسيق والتكامل بينها أن يحل هذه المشاكل، بل ويحولهم إلى قوة عالمية (كانت هذه من بديهيات جيلنا) .. لا يمكن النظر إلى فصل مصر عن إمتداداتها الإقليمية إلا على أنه ضربة قاصمة لنهضتها لا يعمى عنها إلا الجهلاء.
لا نحتاج لمقولة أن مصر هي القائد الطبيعي لمنطقتها، من السخافة مناقشة هذا الموضوع، فمسار النهضة وفاعلياتها هو الذي يحدد بشكل تلقائي أين ستكون مراكز القيادة، ونحن لا نتوقع أن يكون مركزا واحدا حتى لو تحققت الوحدة وأصبح لنا عاصمة سياسية واحدة، ستظل هناك مواقع عديدة لكل منها مزاياه النوعية التي تؤهله لقيادة واحد من محاور النهوض العديدة، هذه هي الدروس المستفادة من تجارب الكيانات الكبيرة التي سبقتنا (الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي والصين والهند) .. القضية إذن ليست حرمان مصر من دورها القيادي، بل حرمانها من أن تكون جزءا من إقليم كبير يمتلك مقومات ضخمة للنهضة والتقدم، ولتكن قيادته في أكثر المواقع الملائمة للقيادة، المهم أن نخرج من حفرة التخلف، والهدف من إنشاء إسرائيل كان منذ البداية هو إبقائنا في هذه الحفرة.
إذا كانت الجماهير اليهودية التي هاجرت إلى فلسطين في البداية قد حركتها – في معظمها - فكرة أرض الميعاد التوراتية فإن نجاحهم في إقامة الدولة لم يكن ليتحقق أبدا لولا أن قيامها كان في خدمة المصالح الجيو-سياسية للإستعمار الغربي، فكل الساسة الغربيين الذين لعبوا الدور الحاسم في قيام الدولة، ثم دعموها هذا الدعم الهائل، لم يعرف لهم أية دوافع دينية، فالإنجليز الذين أصدروا وعد بلفور، ثم أعطوا المهاجرين اليهود الجنسية الفلسطينية لتصبح المذابح التي قامت بها العصابات الصهيونية حربا أهلية (وليست أعمال عنف يقوم بها بعض الأجانب) تبريرا لصدور قرار التقسيم، هؤلاء الساسة كانوا أتباعا للكنيسة الإنجيليكانية التي لم يعرف عنها أي تعاطف مع اليهود، والرؤساء الأمريكيون الذين قدموا الدعم لإسرائيل في المواقف المفصلية لم يكن منهم من ينتمي للصهيونية المسيحية التي تناصر الحزب الجمهوري تقليديا، فليندون جونسون الذي بدأ سياسة فتح الخزائن الأمريكية لإسرائيل على مصراعيها بعد 1967 كان ديموقراطيا، أما الرئيس الحالي – بايدن – فيعد من أكثر الرؤساء الديموقراطيين إبتعادا عن أي مؤثرات دينية، يؤيد الشذوذ والأجهاض والحرية الجنسية وغيرها من المواقف التي تعطي لخصومه السياسيين الفرصة لغمزه بالإلحاد، ومع ذلك يرسل الأموال والسلاح والأسطول والجنرالات وفرق النخبة للمشاركة في الحرب على غزة .. بإختصار: الساسة الغربيون لم يتحركوا إستجابة لرغبة اليهود في العيش في أرض الميعاد، لكنهم كانوا يريدون زرع كيان غريب ثقافيا ومختلف حضاريا ليعمل كقاعدة غربية متقدمة لمنعنا من التغلب على حالة التجزئة التي تمنعنا من بناء قدراتنا الذاتيىة وحماية مقدراتنا ومنع الشركات العولمية من نهب ثرواتنا .. الدولة اليهودية وجدت لمنعنا من النهوض.
لم تكن ميزة إسرائيل بالنسبة للغرب مجرد أنها جسم غريب يعرقل الوحدة ويعوق النهضة، فالصهيونية تقوم على عقيدة عدوانية توسعية تؤمن بملكيتها للأرض الواقعة بين النيل والفرات (أرض الشام التاريخي ونصف أراضي مصر والعراق والجزيرة العربية)، وأن حق الملكية لا يعني محض الإستيلاء عليها وحكمها، بل يعني أيضا ضرورة إجلاء أهلها عنها، والأفضل إبادتهم حتى لا يطالبوا بالعودة .. هذه تبدو إتهامات شنيعة لا يمكن تصديقها، وقد يخطر ببالك أنني أبالغ، وأن المبالغة ستفسد القضية، لكن هذه هي العقيدة الصهيونية المستندة إلى نصوصهم الدينية .. الأمر يحتاج مزيدا من التفصيل في مقالات قادمة بلإذن الله.
Ahmed Afifi || ahmed.afifi@bluewin.ch
مقال في غاية الأهمية رغم أنه يذكر ببديهيات تربينا عليها ونراها أمام أعيننا ولكن أفسد الإعلام المنحط عندد الكثيرين البناء عليها