منذ 1 سنة | 2150 مشاهدات
تبنى معظم أبناء جيلي من الذين إنخرطوا في العمل الإسلامي في سبعينات القرن المنصرم ما نقله إلينا الجيل الذي سبقنا من فكر الإمام البنا، فإقتنعنا بأن الإسلام يجب أن يحكم كل جوانب الحياة، وأن الطريق يبدأ بإستعادة الفهم الصحيح للإسلام وإخراجه من معزل الممارسات الشخصية لكي يصبح تطبيق كل أحكامه في كل المجالات مطلب شعبي عام، ولما كان هذا التطبيق يستلزم وجود دولة إسلامية فإن المطالبة بالحكم ستصبح بعدها واجبا شرعيا، وقد أوضح البنا رحمه الله خطته للحركة في رسالة المؤتمر الخامس: " .. لابد من فترة تنتشر فيها مبادئ الإخوان وتسود، ويتعلم فيها الشعب كيف يؤثر المصلحة العامة على المصلحة الخاصة [...] وأما وسائلنا العامة فالإقناع ونشر الدعوة بكل وسائل النشر ... ثم النضال الدستوري حتى يرتفع صوت هذه الدعوة في الأندية الرسمية وتناصرها وتنحاز لها القوة التنفيذية، وعلى هذا الأساس سيتقدم مرشحو الإخوان حين يجيء الوقت المناسب إلى الأمة ليمثلوها في الهيئة النيابية" .. ولم يورط البنا نفسه في إقتراح خطة لكيفية التغيير من خلال العمل البرلماني .. لقد ناقشنا القضية الأخيرة بقدر من لتفصيل خلال إستعراض أفكار البنا السياسية والإقتصادية في المقالات من 9 إلى 13، ووصلنا إلى أن البنا لم يدخل أبدا مرحلة العمل السياسي (كان له فكره السياسي، لكن العمل هو خطوات الوصول للحكم وتنفيذ الفكر).
إتبع البنا، معتمدا على بداهة تجلى فيها التوفيق الإلهي، القاعدة الذهبية للتخطيط: حدد الهدف، إختر الطريق الموصلة ، إستخدم الوسيلة المناسبة، فحدد هدفه المرحلي في إقناع الجماهير بتبني هدف تطبيق الشريعة ومن ثم إنتخاب الإخوان لتمكينهم من ممارسة الضغط على السلطة التنفيذية بإتجاه تحقيق هذا الهدف، فكان تنظيمة، بهيكله وأساليبه وثقافته الداخلية، وسيلة عالية الكفاءة للقيام بهذه المهمة، فإنتخب المصريون، في أول إنتخابات حرة نزيهة، برلمانا وصل عدد النواب الذين دخلوه تحت لافتات إسلامية إلى ثلاث أرباعه، وأوصلوا مرشح الإخوان إلى قصر الرئاسة .. إنكسرت التجرية ولا جدوى من البكاء على اللبن المسكوب، لكن هناك جدوى من تعلم دروسها، ومن معرفة أسباب الفشل وكيف يمكن تجنبه في مرات تالية ستأتي بإذن الله.
لا أدعي الحكمة بأثر رجعي، فأنا أدرس الحوادث بعد وقوعها لأتعلم منها، وما أعرضه هو رؤية من منظور مختلف، قد لا تكون صحيحة صحة كاملة، لكني أسأل الله أن تحمل ما يمكن أن يكون نقطة إنطلاق مناسبة للحل.
إنكب عدد من المفكرين والحركيين الإسلاميين على رصد وفحص بعض الأخطاء التي وقعت في الفترة من فبراير 2011 إلى يوليو 2013، يتحدثون عن إجراءات وقرارات ما كان ينبغي لها أن تتخذ، وأخرى لم تتخذ مع أنها كانت ضرورية .. هذه مسألة مهمة، لكننا نرى أن الفحص ينبغي أن يمتد ليبدأ من منتصف الثمانينات، فربما إكتشفنا أن مسار المرحلة الأولى الذي رسمه البنا رحمه الله قد وصل حينها إلى منتهاه بتحقيق هدفه: تهيئة الظروف لدخول البرلمان بعدد مؤثر، وأن الحركة كانت وقتها في حاجة لتحديد أهداف عملية لمرحلة جديدة، وما يستتبع ذلك من تعديل للأطروحات الفكرية (ليس المطلوب تعديل الفكرة، ولكن تعديل طريقة عرضها والمضامين التي يركز عليها هذا العرض لدفع الجماهير للقيام بالأعمال المطلوبة تأييدا للفكرة، والتي لم تعد مجرد الذهاب إلى صناديق الإقتراع وإعطاء أصواتهم للإسلاميين) وتطوير البنية التنظيمية لتصبح قادرة على قيادة مسيرة تختلف خصائصها عن تلك التي قادها حسن البنا.
لقد بدأ البنا عمله في بيئة لم يكن الإسلام مطروحا فيها كبديل لقيادة النهضة، وقد وضع نصب عينيه هدف تغيير هذه البيئة حتى يصل إلى مرحلة يمكن للإسلاميين فيها أن يستخدموا البرلمان كوسيلة للتغييير، وحتى إستشهاده كان يدرك أنه لا المجتمع قد وصل إلى هذه الدرجة من النضج، ولا الجماعة قد إمتلكت من القوة ما يمكنها من الحصول على حصة مؤثرة من مقاعد البرلمان، وعندما فكر في ترشح بعض الإخوان للإنتخابات في منتصف الأربعينيات لم يكن يأمل إلا في الحصول على منبر إضافي لنشر دعوته، فلم يكن من المحتمل أن يتمكن المرشحون الخمسة، حتى لو نجحوا كلهم، من ممارسة تأثير يذكر على إتجاه البرلمان، وسيكون خطابهم فيه موجها في الأساس للأمة، لا لأعضاء البرلمان ولا للحكومة، وهذا ما دعاه لقبول عرض مصطفى النحاس: الإنسحاب من الترشح مقابل إعطاء الإخوان مجال أوسع لممارسة لعمل بين الجماهير، وفي إنتخابات 1950 كان لخلفائه نفس التقدير للموقف عندما أحجموا عن الترشح مفضلين تقديم دعمهم لمرشحي الوفد، الذي كان، رغم ما أصابه من ضعف، الأقدر على قيادة العمل الوطني ومواجهة ضغوط الإنجليز والسراي .. كان هذا قرارا موفقا أثبتت الأحداث صوابه وحكمته.
أدركت قيادة الإخوان في منتصف الثمانينات أن الظروف قد تغيرت، فقررت دخول معترك المنافسة السياسية على قوائم حزب الوفد أولا ثم بالتحالف مع حزبي العمل والأحرار، وفي 1994 أصدرت وثيقة تعد أول تعديل جوهري للفكر السياسي لحسن البنا، فبعد أن كانت أدبياتهم تشدد بكل قوة على ضرورة حل كل الأحزاب ودمجها في تنظيم واحد أعلن الإخوان قبولهم بالتعددية الحزبية وحق التيارات السياسية المختلفة في إنشاء تنظيماتها المستقلة، وبعدها بعقد أعلنوا، بعد طول تردد، إحترامهم الكامل للقواعد الديموقراطية .. نحن إذن لا نذهب بعيدا عندما نقول أن الجماعة قد أدركت أن طبيعة العمل الإسلامي قد تغيرت عما كان عليه الحال تحت قيادة البنا، لكن يبدو أن هذا الإدراك لم يصل إلى أهمية مراجعة الخطاب الفكري وإنعكاس نتائج هذه المراجعة على بنية العمل الحركي وأسلوب تنظيمه .. هذا ما سنحاول أن نطرحه في مقالات قادمة بإذن الله.