منذ 1 سنة | 2350 مشاهدات
لا تمتلك الحركة الإسلامية المجتمعية (تمييزا لها عن الحركات الجهادية) خارطة طريق لتحقيق إستعادة حكم الإسلام لكل جوانب الحياة، مع أن إعداد هذه الخريطة هو المهمة الأكثر إلحاحا، والتي يجب إنجازها قبل أي مهمة أخرى، وإلا فإن الحركة ستظل تراوح في مكانها، تحقق نجاحا كبيرا في الإنتشار الجماهيري ثم تعود لتتلقي ضربات تفقدها كل ما حققته ,, هذه قضية بالغة الأهمية نحتاج للبرهنة على صحتها إلى تمهيد ضروري.
لا يمكنك الإنتقال من مدينة إلى أخرى إلا إذا كنت تعرف مكان المدينة التي تريد الذهاب إليها، ثم تدرس الطرق المختلفة، فالطائرة وسيلة إنتقال سهلة ومريحة، لكن إختيار الطيران يتطلب أن يكون معك ثمن التذكرة، وأن يكون بالقرب منك مطار للإقلاع، وأن تتأكد من وجود مطار للهبوط، وإلا فعليك البحث عن الطريق الذي يمكنك إستخدامه، السكك الحديدية أو السفر بالسيارة أو حتى بالجمال والحمير، ولا معنى للشروع في تدبير وسيلة الإنتقال قبل تحديد المكان المستهدف وإختيار الطريق الملائم، بعدها فقط يمكنك أن تحدد الوسيلة وتخطط للحصول عليها وتتعلم طريقة إستخدامها، يبدو لي أن هذا نموذج جيد لفهم الإشكالية التي تواجه الحركة الإسلامية التي تعطي الأولوية للوسيلة – التنظيم – قبل تحديد الطريق، وهذا الطريق لا جدوى من محاولة إستكشافه إذا لم تكن قد حددت الهدف.
الغاية العليا للحركة الإسلامية هو إستعادة حكم الإسلام لكل جوانب الحياة، أي صياغة أوضاع سياسية وإقتصادية وإجتماعية يحيا الناس في ظلها وفقا لأحكام الشريعة وقواعدها وقيمها وأهدافها .. إن معرفة هذه الأوضاع النهائية – ولو بشكل مجمل مع إستمرار بحث التفاصيل الإجرائية مع تقدم المسيرة – هو الأساس الذي يمكننا من تحديد المحطات المختلفة التي يجب المرور عليها في الطريق، أي الأهداف المرحلية التي ينبغي إنجازها الواحد تلو الآخر، وفهم هذه المراحل هو الذي سيدلنا على المهام العملية التي يجب إنجازها، والتي قد تتغير طبيعتها من مرحلة لأخرى .. إن نوعية المهام هي التي تحدد الوسائل والأدوات التي نحتاجها والكفاءات والخبرات المطلوبة لإستخدامها .. بمعنى آخر: المهام العملية ومسائلها الإجرائية هي التي بناء على معرفتها نحدد الهيكل التنظيمي، والعلاقات بين مكوناته، والثقافة التي ينبغي أن تسود داخلة، والمؤهلات والخبرات والخصائص الشخصية للأفراد الذين يمكنهم قيادته .. لا يمكنك البدء ببناء تنظيم ما ثم التساؤل بعد ذلك عن الطريقة التي يمكن بها لهذا التنظيم أن يتحرك نحو الهدف.
إذا فهمت الفكرة السابقة – حتى لو كنت لم توافقني عليها بعد – فستفهم لماذا أصبت بخيبة أمل وأنا أتابع واحد من حوارات لندن التي يديرها الأستاذ عزام التميمي بين مجموعة من المفكرين الإسلاميين من مختلف البلاد والإنتماءات، كانت الحلقة مخصصة لمناقشة الخلافات الداخلية التي يعاني منها الإخوان لعشرة سنوات كاملة منذ الإنقلاب، وجه بعض الحاضرين سؤالا لواحد من قيادات الإخوان المسلمين عن مشروعهم في هذه المرحلة، فكانت الإجابة: إعادة التماسك ورأب الصدع في صفوف التنظيم .. بغض النظر عن الخلط بين المشروع والمهمة الملحة، فإن إعطاء الأولوية لبناء التنظيم يعد – من وجهة النظر التي شرحناها – خطأ منهجي يعرض الحركة لفشل آخر .. ليس هذا إنكارا لأهمية بناء تنظيم جيد، لكن التنظيم ليس إلا أداة لتجميع الجهود وتنسيقها في عمل مشترك، وكأي أداة لابد أن تتلائم خصائص التنظيم مع المهمة التي سيستخدم لإنجازها.
لا أظن أن قيادات الإخوان لا تعرف هذه المبادئ العامة، لكنك على الأرجح ستسمع منهم كلاما مثل أن تنظيم البنا قد تأسس للقيام بمهمة إستعادة حكم الإسلام للحياة، وقد حقق نجاحا كبيرا إلى أن تم عرقلته لأسباب عديدة، والعمل الذي نتصدى له الآن هو إستكمال لمسيرة حسن البنا، ومازال التنظيم الذي أسسه قادرا على القيام بالمطلوب .. هل هذا تقدير صحيح للموقف.
لقد خصصنا المقالات من 8 إلى 14 للأدلة على صحة ما نذهب إليه من أن المهمة التي تصدى لها البنا، والتي تعد المرحلة الأولى من مراحل الإحياء، كانت إعادة ربط حركة المجتمع فكريا ووجدانيا بالإسلام، كشرط لازم يسبق الشروع في تنفيذ مهام التغيير الفعلي، بعدما أسفرت ثورة 1919 عن إتجاه هذه الحركة إلى مسار عالماني تحت قيادة الوفد، التي تبنت المفهوم الليبرالي للتدين الذي يعتبره مجرد علاقة شخصية بين العبد وربه لا إرتباط بينه وبين أهداف الحركة الوطنية في الإستقلال والنهضة والتقدم .. وأدرك البنا أن هذه المهمة تحتاج إلى خطاب عام ومجرد يبتعد عن الخوض في التفاصيل، وإلى حركة تركز على بناء الشخصية وتعزيز الإنتماء وتؤجل الإنخراط في العمل السياسي إلى أن تقطع الحركة شوطا مناسبا في الإحياء الفكري والوجداني، وفي حدود هذه المهمة كان تنظيم الإخوان على درجة عالية من الكفاءة والفاعلية .. لقد قطعت الحركة الإسلامية بقيادة الإخوان شوطا بعيدا وأصبح من الضروري الإنتقال إلى مرحلة تالية حتى لا يتبدد الزخم الذي حققته المرحلة الأولى، مرحلة جديدة ينبغي أن يكون للعمل السياسي فيها نصيب كبير، وقد أدرك الإخوان بالفعل، منذ أواسط الثمانينات، أهمية تطوير العمل الإسلامي في هذا الإتجاه، لكن فاتهم أن للعمل السياسي خطابه وأدواته المختلفة .. إنها مهمة أخرى لها إحتياجات أخرى .. على الحركة الإسلامية أن تدرس هذه الإختلافات، وأن تبدع الخطاب الفكري الملائم، وأن تعد نفسها وكوادرها للمهام العملية الجديدة، وضمن هذا الإعداد وفي مركزه القدرة على تحريك الجماهير العريضة لتساهم بنفسها في بناء المنظومة الإسلامية في الواقع المعاش.
يفتقر تراث البنا إلى تحليل يبدأ من تصور واضح للمنظومة المطلوبة، ثم يرسم خارطة طريق للوصول إليها، ويقسم الطريق إلى مراحل، وبعدها يحدد المهام المطلوبة لإجتياز المرحلة الأولى، كيف وضع البنا قدمه على الطريق الصحيح بدون القيام بمثل هذا التحليل؟ .. لا أجد إجابة إلا الإلهام والتوفيق الإلهي الذي يتدخل عندما يستفرغ المخلصون كل ما وسعهم من جهد، ولم يكن في المسلمين ولا في غيرهم وقتها من يقوم بمثل هذه التحليلات، أما الآن وقد باتت الأمة تزخر بالخبراء في كل العلوم الإنسانية (السياسة والإجتماع والإقتصاد والتربية والإدارة .. إلخ) فلا أظنه مقبولا منا أن نقعد عن التفكير المنظم لننتظر إلهاما يهبط على رجل ما في مكان ما .. وأظن أن الله سيحاسب المقصرين حتى لو تداركت رحمته الأمة وجبرت هذا التقصير بمدد من عنده.
قبل أن نناقش طبيعة العمل التنظيمي المطلوب لهذه المرحلة، في حدود معلوماتي وخبرتي التي لا تتسع لكل المجالات لكني أحسبها قادرة على إكتشاف نقطة للبدء، فإننا سنبدأ من البداية المنطقية: ما هو الهدف العملي النهائي؟ ما هو شكل المنظومة السياسية والإقتصادية التي نريد الوصول إليها كي تكون حياتنا متفقة مع شريعتنا؟ .. والله المستعان