منذ 1 سنة | 2350 مشاهدات
يفترض الكثيرون أن النظام اللامركزي لدولة الرسول (ص) الذي تأسس على سلطة الشعب الحر يصعب إستعادته بعد أن تغيرت بنية المجتمع واختفت القبيلة التي كانت قادرة على السيطرة على إحتياجاتها المعيشية البسيطة، لقد تغيرت الحياة وصارت الخدمات والمرافق العامة تعتمد على وسائل تكنولوجية حديثة ومكلفة، وغدت السلطة المركزية هي وحدها القادرة على تقديمها من خلال أجهزة إدارية معقدة لديها الخبرات الفنية النادرة .. إلخ .. هذا فرض خاطئ روجت له الحكومات المستبدة ويكذبه الواقع.
لسنا في حاجة لعرض الأفكار النظرية التي تؤكد على أن "تمكين" المواطنين من حكم أنفسهم من خلال مجالس محلية منتخبة هو الذي يحقق أعلى كفاءة في إستغلال الموارد وتعبئة الجهود الشعبية للإنخراط في عمليات التنمية ويوفر أعلى درجات الرضا للمواطنين، فالمسلمون يقرون بأن السير على هدي النبوة هو أفضل سبل الحياة الكريمة، وهم لم يقبلوا بتحكم البيروقراطية المركزية في حياتهم إلا لأنهم صدقوا الدعاوى القائلة بأن تغير الظروف يفرض هذا الوضع، فيكفينا لإثبات كذب هذه الدعاوى حقيقة أن كل الدول المتقدمة، ومعها تلك التي خرجت من حفرة التخلف في العقود القليلة الماضية، تقوم على واحد من أنماط الحكم المحلي المتعددة التي تعطي لأصغر الوحدات المجتمعية في القرى والأحياء سلطات واسعة في إدارة شئونهم الحياتية، وسنعرض في هذا المقال بعض ملامح الحكم المحلي في الولايات المتحدة الأمريكية، ليس لأننا معجبون بطريقة حياتهم، فنحن نرى فيها العديد من جوانب القصور، لكن لأننا نريد إثبات واقعية إعطاء الناس أوسع الصلاحيات لإدارة حياتهم، وعدم تعارض سلطة الشعب الحر مع متطلبات الحياة الحديثة.
يتبنى النظام الأمريكي قاعدتين ذهبيتين تقوم عليهما كل أنماط الحكم المحلي الحقيقي، القاعدة الأولى هي أن الخدمة ينبغي أن تتحمل مسئوليتها أصغر حكومة محلية قادرة على تقديمها، فالخدمة أو المرفق (مدرسة، وحدة صحية، إنارة الطرق.. إلخ) الذي يمكن لمجلس الحي أن ينشأه ويديره لا يجوز للمدينة أن تتدخل فيه، وما يستطيع مجلس المدينة أن يقدمه لا ينبغي للمقاطعة أو المحافظة أن تنشغل به، وهكذا، والقاعدة الثانية هي أن الحكومة المحلية هي التي تحدد لنفسها أولويات الإنفاق وتوزع الأموال على البنود المختلفة، ويجب أن يصاحب ذلك حقها في تحصيل الضرائب والرسوم التي يمكن تحصيلها محليا، مع نسبة من تلك التي لا يمكن تحصيلها إلا مركزيا، بالإضافة إلى حقها في فرض ضرائب ورسوم محلية أخرى بشرط ألا يخل ذلك بقاعدة دستورية (فالدستور، مثلا، يمنع فرض ضرائب حدود أو ما يشابهها من رسوم تعوق حرية مرور السلع والأفراد بين المدن والولايات).
لا يوجد نمط واحد لسلطة المحليات، فيوجد المجلس المنتخب الذي يجمع بين إتخاذ القرارات والتنفيذ، حيث يشرف على كل إدارة عضو من الأعضاء، أما العمدة (رئيس المدينة) فيتم إنتخابه من السكان أو من أعضاء المجلس، ودوره هو رئاسة الجلسات والتنسيق بين الإدارات، وفي أغلب المدن الكبرى يسود نمط آخر، هو المجلس الذي يقتصر دوره على السلطة التقريرية والرقابية بينما يتولى العمدة رئاسة الإدارة التنفيذية، وفي مدن أخرى يقوم المجلس المنتخب بتعيين مدير محترف يمتلك المؤهلات العلمية والخبرة العملية ليتولى رئاسة الأجهزة التنفيذية تحت رقابة المجلس، أما المسئول عن حفظ الأمن وإنفاذ القانون، قائد الشرطة أو مفوض الشرطة أو المأمور (الشريف) فيعينه ويحاسبه العمدة أو المجلس المحلي حسب، وتوجد بالطبع أجهزة أمنية في المستويات الأعلى، لكنها لا تتدخل إلا في جرائم معينة يحددها القانون.
والتعليم العام المجاني يحظى بقبول واسع، وأقل من 20% من تمويله يأتي من الحكومة المركزية، أما الباقي فتتحمله حكومة الولاية والحكومة المحلية، ولوزارة التعليم دور محدود يتعلق بصرف التمويل للولايات وبالتوجيه العام، أما الدور الأكبر فلمجلس التعليم بالولاية، وهو مجلس منتخب يحق لحاكم الولاية أن يعين فيه عدد من الخبراء، أما مجالس التعليم بالمقاطعات فمنتخبة بالكامل، ولكل مدرسة مجلس أمناء ينتخبه السكان الذين يقيمون في المنطقة التي تخدمها المدرسة، ويتولى مجلس الأمناء كل المسائل المالية والإدارية وغالبا ما يعين أعضاء هيئة التدريس الذين تشرف عليهم إدارة المقاطعة من الناحية الفنية، وبسبب لامركزية النظام فإن القوانين والبرامج التعليمية تتنوع تنوعا كبيرا من ولاية لأخرى، ومع ذلك فإن بينها الكثير من أوجه الشبه، ولا يرجع هذا التشابه لأي توجيه مركزي، لكنه نتج تلقائيا عن تشابه العوامل الإجتماعية والثقافية، ولمراعاة المعدل العالي للتنقل المستمر للطلاب والمعلمين من ولاية لأخرى .. أما المدارس الخاصة فهي التي تحدد مناهجها ونظمها، فكل المطلوب هو إعداد التلاميذ ليجتازوا الإمتحانات العامة في المستويات المختلفة.
تخضع المستشفيات العامة لنفس المنهج مع إختلاف في بعض التفاصيل بسبب الإختلاف في طبيعة الخدمة، أما المرافق والخدمات العامة اليومية فتخضع بالكامل لسلطة المجلس المحلي للحي أو المدينة، كشبكات الطرق وتنظيم المرور وإنارة المناطق العامة وشبكات الصرف الصحي ومياة الشرب وجمع القمامة وتنظيم إعمال البناء وغيرها، ويتم هذا من خلال الموظفين العموميين الذين لا يخضعون إلا للمجلس الذي عينهم، أو من خلال المناقصات العامة التي يحق لكل مواطن أن يطلع على إجراءاتها ويطمئن إلى سلامتها.
لم يعد أحد يجادل في قيمة اللامركزية الكاملة، لكنك ستجد في دول الإستبداد من يحاول التملص منها بحجج مختلفة، بالضبط كما يحاولون التملص من الديموقراطية (لعلك تذكر مقولة عمر سليمان أن الديموقرطية جيدة جدا لكن الشعب المصري غير مهيأ لها الآن) فيدعون مثلا أن علينا أن ننتظر حتى نحقق بعض التقدم، فالتخلف يعوق تبني اللامركزية الموجودة في الدول المتقدمة، متجاهلين أن نظام الحكم اللامركزي الأمريكي بدأ فورا الإستقلال عن بريطانيا عام 1779، وأحيانا يقولون أن التحول من المركزية إلى اللامركزية يحتاج لعدة عقود، بينما أثبتت التجربة أن دولة كأندونيسيا طبقت نظاما لامركزيا كاملا دفعة واحدة بعد نجاح الثورة ضد سوهارتو، وأمكنها تحقيق معدلات تنمية كبيرة دون الإخلال بالإستقرار والتماسك الداخلي.
يتطلب نجاح التحول إلى اللامركزية إلى شرطين: الإرادة السياسية للقيادة ، وقناعة الجماهير بحقها وبقدرتها على حكم نفسها بنفسها، وتحقق الشرط الثاني يمكنه أن يكون وسيلة لتحقيق الشرط الأول (إذا إقتنعت الجماهير بأن مشاكلها تنتج من البيروقراطية المركزية العاجزة والفاسدة وطالبت بشدة بسلطة الحكم المحلي فقد تضطر السلطة لتقديم تنازلات حقيقية، وهذه التنازلات تكسب الشعب قوة جديدة ليستمر في المطالبة بالمزيد) .. فكيف تخلق لدى الجماهير الوعي بحقها في السيطرة على مقدراتها، وبقدرتها على إدارة مواردها بأفضل مما يمكن للبيروقراطية المركزية أن تفعل؟ .. هذا هو دور الحركات الشعبية، والله المستعان.