منذ 1 سنة | 2355 مشاهدات
هذه سمة يندر ذكرها، ومن ذكرها مر عليها مرور الكرام، رغم أنها في نظرنا واحدة من أهم سمات الدولة الإسلامية والتي ستجعل دولتنا، بإذن الله، حلم كل الشعوب المقهورة في الأرض، وليس فقط الشعوب المسلمة، وتعطي لحركة الإحياء الإسلامي زخما كبيرا وتأييدا كاسحا إذا فهمها رجال الحركة وصاغوا لتطبيقها نظاما معاصرا واقعيا وأقنعوا شعوبهم بإمكانية تحقيقها.
وقبل أن نشرع في بيان كيف كانت دولة الرسول (ص) وخلفائه الراشدين (رض) دولة شعب حر يسيطر مواطنوها على مواردها ويملكون أوسع السلطات الممكنة لإدارة شئونهم دون تدخل من الحكومة المركزية، ينبغي أن نوضح أن إعتراضنا على النظم التي سميت بالخلافة الأموية ثم العباسية ثم العثمانية ينبع من بعدها عن أسس ومبادئ الإسلام في الحكم، لكن هذا لا يجب أن ينسينا أنها كانت – مع كل عيوبها - أرقى نظم عصرها، حتى في الفترات التي ضعفت فيها الخلافة (العباسي الثاني والمماليك) وسيطر أمراء تغلبوا بالسيف، ظهرت دول عديدة مجاهدة أرقى من كل ما عرف في العالم (السلاجقة والأيوبيين والحمدانيين والمرابطين والموحدين وغيرهم)، ورفضنا إنما ينصب على إتخاذها نماذج نستقي منها تصوراتنا عن الحكم الإسلامي، كانت جيدة في ظروف عصرها ولمواجهة ضروراته، أما وقد زالت هذه الضرورات، وإستحدث البشر أدوات قادرة على تحسين إدارة الحياة السياسية، فلا يجوز لنا أن نرضى بما إضطر علماء عصر الإنحطاط إلى إجازته من غصب وإستبداد.
لقد كانت دولة الراشدين أفضل تجسيد لمبادئ الإسلام في عصرهم، لكن هذا لا يعني أن نظامهم سيصلح لنا، فالنظام هو الأدوات والأساليب والإجراءات والعلاقات التي تترجم المبادئ على أرض الواقع، وقد كان لعصر الراشدين خصوصياته التي وفرت له إدوات لم تعد متاحة لنا، وقد بنوا نظامهم لمواجهة مشاكل لم تعد تواجهنا (عرضت هذه الفكرة في مبحث بعنوان "الديموقراطية فريضة شرعية" في الفصل الخامس من الباب الثالث من كتابي "الإسلاميون والديموقراطية" http://www.assemelfouly.com/img/book/2017/09/30/book_585_1506785020.pdf)، لكننا نستمد من نظام دولة المدينة في زمن الرسول (ص) وخلفائه السوابق التاريخية التي نستقي منها المبادئ العامة لكونها التطبيق الأمثل لما لدينا من نصوص الكتاب والسنة وأفضل تنزيل لها على الواقع.
توجه التكليف في الخطاب القرآني إلى الأمة، وغالبا ما تبدأ آيات الأحكام بالنداء المحبب "يا أيها الذين آمنوا"، ولم يذكر أولي الأمر إلا مرتين، النساء 59: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ .."، والنساء 83: "وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ .."، ويذهب المفسرون إلى أن أولي الأمر هم الأمراء أو العلماء أو هم جميعا، لكن لو راجعت التطبيق العملي في زمن الرسول (ص) وخلفائه فربما توافقني على أن المعنى يشمل كل من يتولى المسئولية عن أي وحدة من وحدات الهرم الإجتماعي في مستوياته المختلفة، التي تبدأ من الأسرة، يعلوها العائلة الممتدة أو العشيرة، ثم القبيلة، ثم مجموعات القبائل المنتمية لجد أعلى مشترك، ثم أمير المؤمنين رئيس الحكومة المركزية وجماعة أهل الحل والعقد.
عندما دخلت قبائل العرب الإسلام في عام الوفود، وقد توقفت الهجرة بعد الفتح، كان الرسول (ص) يرسل إلى كل قبيلة بعض أصحابه ليعلمهم دينهم، ويرسل قاضيا وعاملا على الزكاة يجمعها ويقسمها بينهم، فهذه مهام تحتاج لمستوى من الفقه لا يمكن لحديث عهد بالإسلام أن يبلغه، لكنه لم يرسل حاكما أو قائدا سياسيا، بل ترك للقيادات التي أفرزها العرف القبلي المقبول أن تتولى القيادة السياسية لوحدتها الإجتماعية، ووفقا لأعرافها طالما لا تتعارض هذه الأعراف مع أحكام الشريعة، ولم يكن هذا أمرا طرأ بعد الفتح عندما زاد عدد الوحدات الإجتماعية المكونة لأمة الإسلام، بل تراه واضحا منذ تأسيس الدولة الإسلامية في العام الأول للهجرة، فأنت إذا راجعت "الصحيفة"، أول وثيقة دستورية، تجد أن رئيس الدولة، الرسول (ص)، يختص بالعلاقات الخارجية والجوانب العسكرية، وتظل قبائل الأوس والخزرج ومجموعة المهاجرين من قريش تدير أمورها الحياتية بطريقتها(.. على ربعتهم [أي شأنهم الذي كانوا عليه قبل الإسلام]، يتعاقلون بينهم، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف .. وغيرها من البنود)، أما إختصاصه (ص) بالجوانب التشريعية عند المسلمين فقد كان بصفته النبوية (فعندما إنضمت قبائل اليهود بالمدينة إلى الصحيفة لم تلزمهم بقبول حكمه إلا إذا إختاروا هم الإحتكام إليه)، وتعزز ذلك بعد إنتقاله إلى الرفيق الأعلى، إذ أسند أمر التشريع للفقهاء بعيدا تماما عن البنية السياسية للدولة .. هذا هو الأصل وهذا هو ما سار عليه أبو بكر (رض) بعد حروب الردة، ولم تعين الحكومة المركزية حكاما إلا للأقاليم المفتوحة منذ عهد عمر، ففي هذه الأقاليم كانت السلطة قبل الفتح لرجال الإمبراطورية الذين تم طردهم (الفرس أو الروم)، ولم يكن للشعوب أي قيادات أخرى يمكن إقرار سلطتها إذا دخلت الإسلام كما كان الحال في شبه الجزيرة، وتذكر أنه حتى نهاية عصر الراشدين لم يكن قد دخل الإسلام من أبناء الشعوب المفتوحة إلا قلة قليلة، وإن كانت هذه الشعوب قد قبلت الحكم الإسلامي بإعتباره منقذهم من نير الفرس والروم.
لم تكن الخلافة الراشدة حكومة تصدر أوامرها في كل جوانب الشأن العام بقدر ما كانت تقوم بالتنسيق بين وحدات إجتماعية تتولى كل منها إدارة شئونها الحياتية وتحتكم إلى الشريعة حسب أعرافها وأسلوب حياتها.
أعرف أن كل فقرة من الفقرات السابقة تحتاج إلى مزيد من التفصيل، فإذا كنت تشك في صحة ما ذهبنا إليه فأرجو أن تراجع سيرة الرسول (ص) وخلفائه لتطمئن بنفسك، لأني أعتقد أن البرنامج السياسي للتغيير الإسلامي يجب أن يتمحور حول أن حركة الإحياء تهدف إلى إعطاء سلطة إدارة الحياة اليومية (كالمرافق والطرق وجمع القمامة والإشراف على الخدمات العامة من صحة وتعليم وغيرها) لأصغر الوحدات الإجتماعية كي يتحكم الناس بأنفسهم في أمورهم (بما في ذك وضع الإجراءات وتعيين الموظفين العموميين)، وهذا يضرب عصفورين بحجر واحد، فهو يجعل الشعب يتأكد من أنه يحقق مصلحته عندما يدعم جهود الإحياء الإسلامي، ثم هو يغل يد موظفي الدولة العميقة عن عرقلة بناء النظام الإسلامي التي ستتم أغلب خطواتها، بإذن الله، بعيدا عن مجال سطوة رجال النظام العالماني.
قد يخطر ببالك أن هذه فكرة ساذجة ربما ناسبت المجتمعات البدوية القبلية لكنها لا تصلح لإدارة الدول في ظل تعقيدات العصر الحديث، أرجو أن أبرهن لك في المقال القادم بإذن الله على أنها، على العكس من ذلك تماما، مطبقة فعلا وتعد واحدة من أهم مصادر قوة وحيوية أقوى المجتمعات الحديثة.
أحمد الله فرحات || ahmadofarahat@yahoo.com
هناك مبادئ شرعية في الحكم أشمل وأرقى من الديمقراطية المتعارف عليها، وتحتاج لحلول إبداعية لتطبيقها على الواقع، حتى في شؤون الحياة التفصيلية المتعمدة على الاعراف الاجتماعية، لأن هذه الاعراف قد تحتاج للتصحيح أو التطوير ولكن بالتدريج. مبادئ الديمقراطية مثلا: الشفافية والمحاسبية وفصل السلطات وتداول السلطة وحرية المجال العام. يزيد عليها في الشريعة تمكين أهل الكفاءة والأمانة بدلا من أصحاب الشعبية في النظام الديمقراطي. ((اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم)).