منذ 1 سنة | 2750 مشاهدات
أشرنا في المقال السابق إلى أن الرجوع إلى كتب التراث قد أكسب الأطروحات الفكرية لمرحلة الدعوة قوة كبيرة، ونتج ذلك عن خصيصتين تميزت بهما المسائل المتعلقة بالدعوة، الأولى هي أنها تعتمد على أقوال ومؤلفات لأئمة أعلام تحظى بثقة وإحترام كل المسلمين (السنة على الأقل) كالأئمة الأربعة والبخاري ومسلم وأبو حامد الغزالي والنووي وغيرهم، والثانية هي أن هؤلاء العلماء لم يختلفوا في هذه القضايا، فكل من يريد معارضة أفكار الإحياء لن يجد سندا من التراث، فلا يملك إلا مهاجمة أشخاص القيادات أو وسائلهم، دون أن يجرؤ على مهاجمة الفكرة نفسها، لكن بنجاح مرحلة الدعوة والتقدم إلى العمل السياسي لم يجد الحركيون في كتب التراث السياسي ما يعينهم على صياغة تصور للدولة الإسلامية المعاصرة ينادون به، فكان عليهم الإجتهاد، وإختلفت الإجتهادات، ومازلنا نكابد على مدى نصف قرن جراء عدم الإتفاق على تصور معين، وعلى العكس، وجد خصوم الإحياء وفقهاء السلاطين مادة خصبة في كتب التراث الفقهي السياسي ليستخدموها في ضرب الأساس الفكري للعمل السياسي الإسلامي.
لم يتناول الفقهاء في القرون الثلاثة الأولى مسألة نظام الحكم (ولا أي من النظم الأخرى) وإقتصروا على المبادئ العامة التي أوردها حسن البنا تحت عنوان "دعائم نظام الحكم في الإسلام" وهي: 1) مسئولية الحاكم، و2) وحدة الأمة، و3) إحترام إرادتها، وكذا تحديد صفات من يتولى الخلافة، وليس هنا مجال الخوض في أسباب قصور الفكر السياسي في العصر الذي إزدهرت فيه كل الأفكار، المهم أن التأليف في موضوع نظام الدولة وأجهزتها وسلطات كل منها والعلاقات بينها والآليات التي يدور بها العمل .. إلخ لم يبدأ إلا في الغصر العباسي الثاني، عصر إنهيار الخلافة، وكتب أبو الحسن الماوردي (المتوفى في 450 ه) كتابه الأشهر "الأحكام السلطانية" والذي يعده الكثيرون – للأسف – خير ما كتب في الحكم الإسلامي، في ظل سيطرة البويهيون على السلطة وتحويل الخليفة إلى طرطور، وهذا الكتاب هو الذي إستشهد به البنا عند الكلام عن نظام الحكم، وفي رأينا أن إستشهاد البنا بالماوردي هو من نوع إستشهاد البابا الراحل شنودة بآيات من القرآن لإثبات ألوهية المسيح، كلاهما يورد بعض العبارات المقطوعة من سياقها ليؤيد بها رأيه المسبق والذي لا يتفق أبدا مع روح الكتاب الذي يستشهد به، فالبنا يريد إثبات إتفاق النظم الملكية الدستورية والرئاسية الجمهورية مع مبادئ الحكم في الإسلام (راجع المقال رقم 11 http://www.assemelfouly.com/seriespost/348) بينما كتاب الماوردي هو قطعة من أدب الإستبداد، ربما إضطر البنا لذلك لأن أغلب الأساتذة والشيوخ يعتمدون عليه في تدريس الفقه السياسي فلم يشأ أن يبدو نشازا .. كان لهذه التزكية الضمنية للكتاب آثار سلبية لم تكن بالقطع في حسبانه.
رغم أن الماوردي يرصع كلامه بالآيات والأحاديث فلن تجد في النظام الذي يصفه أي محاولة لتطبيق المبادئ (الدعائم) التي إستنبطها فقهاء السلف، فقد كان يعمل على شرعنة ممارسات عصره متمحكا في الإسلام، فهو يضع السلطة فوق الشريعة، ويجوز الغصب والإستبداد، ويقول أن أصحاب الشوكة (وهم بالطبع أمراء الجند البويهيون ووزراءهم) إذا عقدوا البيعة لشخص أصبح هو الإمام ولا يمكن لمخلوق نقض هذه البيعة، وليس للرعية – الأمة – إلا النصرة والطاعة، ولا يحل لهم القيام عليه بحال، وهو ولي الأمر والأعرف بمصالح العباد .. إلخ، ومع ذلك يمكن لوزراءه أن يحجروا عليه ويستبدوا بالأمر، وتجب طاعة هؤلاء الحاجرين شريطة أن تكون أعمالهم جارية على أحكام الدين ومقتضى العدل (ولا يبين كيف ستراجع الأمة هذه الأعمال وما الذي تفعله إذا تبين لها أنهم أخلوا بالشرط) ، ويسود الماوردي الصفحات في شرح الكثير من التفاصيل التي لا يمكن تمريرها كتطبيق لمبادئ الإسلام، ولن تقبلها إلا إذا تصورت أن للخلفاء حقا إلهيا كملوك أوروبا العصور الوسطى (مثلا: يحجر عليه وزراؤه ويفقد سلطته لكن هذا لا يفقده صفته كخليفة !!) فالماوردي لم يكن يستنبط من الأصول وإنما كان يشرعن الوضع القائم في زمنه ليلبسه ثوبا إسلاميا .. صحيح أن الكثير من أكابر العلماء قد قبلوا ذلك الوضع ، لكنهم أعلنوا أن قبوله ليس إلا خضوعا لأحكام الضرورة، أنظر إلى أبي حامد الغزالي (الذي توفي بعد الماوردي بنصف قرن) عندما يجوز إمامة الفاسق المغتصب فيقول: "ليست هذه مسامحة في إختيار الإمام الصالح، ولكن الضرورات تبيح المحظورات، فنحن نعرف أن تناول الميتة محظور ولكن الموت أشد منه [...] ومعلوم أن البعيد مع الأبعد قريب، وأهون الشرين خير يجب على العاقل إختياره" .. هذه التنازلات قد تكون مقبولة في ظروف ذلك العصر (بداية الحروب الصليبية) لكن لا يمكن إعتبار هذه الأوضاع الشاذة هي التي جاء بها الإسلام وأنها هي التي يجب أن تجاهد الأمة لإستعادتها.
بالطبع أهمل فقهاء السلاطين تحفظات الغزالي والنووي وإبن تيمية والآخرين على قبول ولاية الغاصب المستبد، ليعتبروا كتاب الماوردي من أصول التشريع الإسلامي، فيدرسه الأساتذة لطلبة العلوم الشرعية، ويحدثونهم عن جواز الحجر على الإمام، وصحة ولاية الأمير المتغلب بالسيف ووجوب طاعته، وغير ذلك مما يجعل ولي الأمر قدرا مقدورا طاعته من طاعة رب العباد بغض النظر عن طريقة وصوله إلى السلطة أو طريقة إستخدامه لها.
بسبب الماوردي ومن نهج نهجه ومن سكت عنه نجد اليوم بعض من يراهم الناس شيوخا على منهج السلف يجرمون جهود الإحياء بإعتبارها خروجا على الإسلام ومروقا من الدين وجريمة تستوجب العقوبة (هؤلاء يرفعون الحرج عن علماء السلطان)، ويستشهدون بمقتطفات من ذات الكتب لذات العلماء الذين كان يستشهد بهم قيادات الحركة الإسلامية (الحقيقة أن بعض الحركيين المخلصين قد وقع فعلا في فخ أفكار الماوردي وإبن جماعة وأضرابهما من فقهاء عصور الإنحطاط)، ولم تعد جماهير المسلمين ترى دعاة الإسلام كلهم كالبنيان المرصوص يدافعون عن قضية واحدة، فهناك لحى وعمائم وجلابيب قصيرة تؤيد الوضع القائم اليوم وتدعي أن المحافظة عليه يجب أن تكون هدفا للمسلمين، ويسهل مهمتهم أن دعاة التغيير لا يقدمون تصورا للبديل، وسنبين لك بإذن الله كيف فقدت الحركة الإسلامية الكثير من زخمها الذي إكتسبته في مرحلة الدعوة لأنها لم توضح ماهية النظام المطلوب، حتى بدا للجماهير أن القضية هي قضية تغيير أشخاص الحكام لا قضية تغيير أسلوب الحياة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إبراهيم محمد الهادي || ib_elhady@yahoo.com
بارك الله لك وضعت يدك على واحدة من أهم أسباب انهيار الأمة الوقوف عند نموذج بعينه أو مرحلة بعينها وإلباسها ثوب الإسلام دون وضع أساس سليم وتوضيح مقدار الهامش الممكن في عدم الالتزام بالنموذج النظري السليم وبالتالي متى يكون النظام مخالفا لهذا الأساس بالكلية توجد دراسات حديثة في الشورى فيها كلام أكثر من رائع وإن كانت لا تضع آليات محددة للنظام الإسلامي لأسباب معلومة تحياتي