منذ 1 سنة | 2450 مشاهدات
من فضل الله علينا وعلى الناس أن نجد في الكتاب والسنة حلولا لكل مشاكلنا، بما فيها مشكلتنا مع الأجهزة العملاقة لبيروقراطية الدولة العالمانية العميقة التي عرقلت، وستظل تعرقل، محاولات التغيير الإسلامي.
أقام رسول الله (ص) دولة الشعب الحر اللامركزية، وإستمرت تحت قيادة الراشدين (رض) حتى حولها معاوية بن أبي سفيان إلى دولة ملكية تتركز فيها السلطة في يد رأس الدولة، وتتعجب عندما تلاحظ أن الفكرة السائدة عن الحكم عند الحركات الإسلامية المعاصرة بإختلاف فصائلها لا تبدأ من دراسة دولة الراشدين، وإنما تبدو أكثر تأثرا بمركزية السلطة كما تصورها كتب الأحكام السلطانية، قد يرفضون ولاية العهد ويقبلون بأن تختار الأمة رأس الدولة (الإمام)، وأن الشورى ملزمة للحاكم تمارسها هيئة منتخبة، ومع ذلك تظل الدولة عندهم كيان مركزي ضخم، يقوده الإمام وأهل الحل والعقد، أو الرئيس والبرلمان، ويعتمد على أجهزة بيروقراطية كبيرة ومهيمنة، تنفذ قراراته في كل شيء وعلى كل أحد، أما الشعب فلا يمارس سلطته إلا في الإنتخابات.
ربما ترجع جذور سيطرة هذا التصور على أغلب مفكري الحركة الإسلامية إلى الأصل الخامس من الأصول العشرين لحسن البنا: "ورأي الإمام ونائبه فيما لا نص فيه، وفيما يحتمل وجوها عدة وفي المصالح المرسلة معمول به ما لم يصطدم بقاعدة شرعية، وقد يتغير بحسب الظروف والعرف والعادات، والأصل في العبادات التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وفي العاديات الالتفات إلى الأسرار والحكم والمقاصد."، وقد شرحه الكثيرون بعبارات مختلفة تتفق في المعنى، وعبارات الدكتور عبد الكريم زيدان هي بالنص: " الإمام: هو الرئيس الذي تختاره جماعة المسلمين فيكون رئيساً للدولة الإسلامية، أو نائبة: أي من ينوب عنه في غيبته أو من يوليه ولاية إقليم أو عمل معين كقيادة الجيش، ورأي هذا الإمام في الأمور الاجتهادية، وهي التي لا نص فيها، أو فيها نصوص تحتمل وجوهاً عدة، أو في مسائل تنضوي تحت قاعدة المصالح المرسلة فإن راي الإمام في هذه الأحوال معتبر ومأخوذ به، إلا إذا خالف قاعدة شرعية أو أصلاً متفقاً عليه أو نصاً صريحاً لأن القاعدة تقول: (لا مساغ للاجتهاد في معرض النص)، [...] وله الاجتهاد في الأمور الاجتهادية وفي ما يندرج تحت قاعدة المصالح المرسلة وفيما يحتمل وجوهاً من نصوص الشريعة، وعلى أفراد الجماعة طاعته في اجتهاد، [...] أما إذا خرج اجتهاده عن المباح إلى مصادمة النصوص الشرعية فلا طاعة له في هذا الاجتهاد لأنه (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) .. إنتهى الإقتباس.
وضع البنا في هذا الأصل السلطتين التنفيذية والتشريعية بيد الإمام، وليس لأحد من الشعب الإعتراض إلا إذا خالف الإمام حكما قطعيا أو قاعدة مقررة (راجع تفسيرنا لما إعتبرناه قصورا في الفكر السياسي لحسن البنا في المقال رقم 11 من هذه السلسلة)، وقد عدل الإخوان هذا الأصل بشكل ضمني، وإن لم يحاولوا تعديل النص، عندما أعطوا السلطة التشريعية لمجلس نيابي منتخب عملا بمبدأ إلزام الشورى، وهذا لا يغير شيئا من الوضع القائم، تتركز السلطة عند الرئيس والحكومة والبرلمان ويظل عدة مئات من الأفراد يحتكرون سن القوانين وإتخاذ القرارات وصنع السياسات في كل شئون الحياة لملايين البشر، وفي هذه الحالة لا مفر من الإستعانة بالنظم والخبرات المتراكمة عند الأجهزة البيروقراطية الضخمة القديمة لتجمع الحكومة كل الموارد المالية للدولة كي تقوم بنفسها وبطريقتها بتقديم كل الخدمات العامة كالتعليم والصحة وحفظ الأمن .. إلخ، بإختصار تظل كل الأمور الحياتية للشعب تحت سيطرة موظفين حكوميين خاضعين لرؤسائهم ثم نشكو من أن الدولة العميقة تعوق التتغيير الإسلامي، مع أن جوهر التغيير السياسي الإسلامي هو تمكين الشعب من إدارة أموره بنفسه والإستغناء عن سلطة البيروقراطية وتقليص حجمها وتحويلها إلى هيئات إستشارية (هذا إذا فهمنا الإصلاح السياسي الإسلامي على أنه عودة لمبادئ الحكومة النبوية).
ظن بعض الإسلاميين أن حل هذه المعضلة قد يكون في تبني أفكار الإدارة المحلية التي راجت في أواخر عهد مبارك تحت إسم "اللامركزية"، بينما لم تكن هذه الأفكار تهدف إلى تحقيق سلطة الشعب وسيطرته على مقدراته، وإنما كانت حلا لعجز السلطة المركزية عن السيطرة على كل التفاصيل وعدم تعاون الشعب مع الإجهزة البيروقراطية في تنفيذ قرارات الحكومة، وذلك من خلال تفويض المسئولين المحليين في إختيار أنسب السبل لتنفيذ القرارات والسياسات المركزية، وتوفير قدر من الرقابة الشعبية على هؤلاء الموظفين وهم ينفذون قرارات الحكومة .. المسألة هي أن السلطة المركزية تريد أن تتخفف من بعض أعباء الإهتمام بالتفاصيل مع إستمرار إحتكارها لسلطة سن كل القوانين في كل جوانب الحياة وإستمرار سلطتها في إتخاذ القرارات الكبرى والسياسات التي تحكم الحياة، وفي سبيل ذلك تقدم تنازلات هامشية لمنع إنهيار النظام كله .. الفارق بين الفكرتين هو أن الأولى تؤمن أن السلطة هي للنخبة المركزية ولكنها مضطرة لتفويض جزء منها للشعب بسبب عجزها عن السيطرة على كل التفاصيل، بينما تؤمن الفكرة الإسلامية بأن السلطة للشعب في أصغر وحداته المجتمعية، وهي تتنازل عن جزء منها للمستويات الأعلى تحت ضغط الضرورة، حيث تحتاج لوظائف لا يمكن إنجازها في المستويات الدنيا، وهذا لا يعطي الحق للحكومة المركزية أن تتدخل في ما يمكن للوحدات الصغرى أن تديره بنفسها، وبذلك تتنفي الحاجة للأجهزة العملاقة، وتتنتهي السيطرة المركزية على معيشة الناس وإحتياجاتهم من المرافق والخدمات .. إلخ، نحن ننحاز لسلطة الشعب الحر لأنها هي المفهموم الإسلامي للسلطة العامة، ومن فضل الله أن هذا المفهموم هو الذي يمكننا من التغلب على مشكلة معارضة الدولة العميقة للتغيير الإسلامي .. وهذه قضية محورية تحتاج لمزيد من التفصيل.
Ibrahim Elhady || ib_elhady@yahoo.com
اتفق تماما