منذ 1 سنة | 2200 مشاهدات
ما هو بالضبط ذلك الفشل الذي نبحث عن أسبابه؟ .. هل هو الفشل في كسر الإنقلاب؟ .. أم ما سبقه من فشل في مواجهة حملات التحريض والدعاية ضد الرئيس المنتخب والعجز عن تفنيدها مما جعل الإنقلاب مقبولا من شرائح عديدة، ومكنه من الحصول على تأييد علني من قوى سياسية يضعها أساسها الفكري في مربع المعارضين للإنقلابات العسكرية؟ فكل الليبراليين وأغلب اليساريين – بإستثناء الناصريين – تنفر أيديولوجياتهم من الإنقلابات، وتشهد تجربة تركيا سنة 2016 أن القوى العالمانية أضطرت لرفضه رغم كراهيتها الشديدة لأردوغان كي تحتفظ بمصداقيتها عند جماهيرها .. أم نذهب إلى القول بأنه القصور في توجيه أجهزة الدولة وما نتج عنه من عدم تقديم إنجاز ملموس تراه الجماهير محققا لبعض تطلعاتها هو الذي أعطى للدعاية والتحريض المادة التي منحتها القبول عند فئات كانت في الأصل مؤيدة للحل الإسلامي؟ .. كل ما سبق وغيرة هو مظاهر لخطأ إستراتيجي يجب فهمه ومعالجته قبل أن نفكر في دخول جولة أخرى من جولات الإحياء الإسلامي، والإنشغال بالنتائج يشبه الإنشغال بالأعراض التي لن تزول إلا إذا عالجنا المرض ذاته .. فما هو المرض؟
إن جذر الفشل يأتي من أن قيادات الإسلاميين لم يدركوا طبيعة العملية التي ينبغي القيام بها لبناء واقع إسلامي، فلم يحددوا إتجاه التغيير ولم يعدوا أدواته، فحاولوا إستخدام الآليات والأجهزة التي بنتها النظم العالمانية، فإعترى سلوكهم في الحكم الكثير من الإرتباك والتشوش، فلا هم نجحوا في إصلاح الدولة العالمانية (كما يفعل أردوجان) ولا بدا أنهم بصدد بناء دولة إسلامية، هذا هو ما نعتقد أنه العامل الجوهري لتراجع التأييد الشعبي.
أغلب الإسلاميين يرون أن الحكام العالمانيين لبلادنا هم المشكلة، ولا يدركوا أن الحكام ليسو إلا قمة جبل الجليد الذي يعوق التغيير، وأن منظومة الدولة كلها بنيت على أسس عالمانية، بل أن دولنا هي من أسوأ النسخ العالمانية، فهي مصممة أساسا للسيطرة على المجتمع وإخضاعه لا لإدارته لصالح أبنائه (ولا أتكلم عن الفساد، بل عن النموذج نفسه حتى لو طبق بكل إستقامة)، فأجهزتها البيروقراطية تمتلك بنية شديدة المركزية لا تعمل إلا كأداة لتنفيذ إرادة السلطة العليا، ودوائر النخب التي تدير سائر الأنشطة ترتبط بتوجهات القوى العولمية وتعمل لخدمة مصالحها، بوعي أو بغير وعي، وهذه كلها تشكل منظومة متكاملة لا يمكن أن تعمل بإتجاه التغيير الإسلامي، ومجرد إستبدال أشخاص الحكام بآخرين يحملون توجهات إسلامية لن يحقق شيئا من متطلبات إستعادة حكم الإسلام للحياة إذا كان الحكام الجدد سيعتلون قمة ذات الجبل العالماني .. لكن الإسلاميين تصرفوا كما لو كانت منظومة الدولة القائمة واحدة من حقائق الحياة التي يجب قبولها والعمل من خلالها.
منظومة الدولة ببيروقراطيتها ومنظماتها الملتفة حولها (من أحزاب سياسية ووسائل إعلام وإنتاج درامي وكيانات إقتصادية مستقلة كالبنوك وشركات التأمين والمؤسسات الصناعية والتجارية الكبرى .. إلخ) والتي تتداخل أدوارها ويشغل مناصبها أفراد تحركهم الرؤية العالمانية للحياة (ليسو بالضرورة معادون للإسلام ذاته، ولكن لأن مصالحهم الشخصية ترتبط بإستمرار النمط الحالي في إدارة الشأن العام فإن أغلبهم يقنعون أنفسهم بعدم جدوى الحل الإسلامي) .. هذه المنظومة ستعمل على عرقلة التغيير .. من العجيب أن تفكر قيادات الحركة الإسلامية بأنهم قادرون على بناء واقع إسلامي بإستخدام نفس الأدوات التي صممت أساسا لإنتاج الواقع الذي أقصى الإسلام.
المسالة ليست مجرد أن هذه المنظومة (التي أسموها الدولة العميقة) ستعرقل التغيير الإسلامي لأنه يسلب أفرادها مصالحهم، فالأهم هو أن واقع الحياة الإسلامية هو واقع مختلف، وإقامته تتطلب إدخال تعديلات جذرية على بنية وآليات عمل العديد من الأجهزة والمنظمات الموجودة، وتعديل العلاقات القائمة بينها، كما سيتطلب البناء الجديد إعطاء أدوار مهمة لكيانات يجب إستحداثها لأنها ستقوم بأدوار لا توجد في الرؤية العالمانية للدولة والمجتمع.
قبل أن يعيد الإسلاميون المحاولة عليهم إجابة السؤال المحوري: ما هي القوى التي يمكن أن تستند إليها السلطة الإسلامية وهي تعمل ضد القصور الذاتي للوضع القائم وضد مصالح بعض أهم الشرائح المستفيدة منه؟ .. إجابتنا هي: القوى الشعبية العريضة .. وليس المقصود أن نعتمد على مجرد الحماس والتأييد العاطفي للحل الإسلامي، فهذه المشاعر الدينية يمكن تضليلها والدوران حولها (كما تم في عملية إسقاط الإخوان)، بل يجب أن تفهم الجماهير الخطوط العريضة لنموذج الدولة الإسلامية، والطرق العملية التي يحقق بها هذا النموذج مصالحها الحياتية، وأنه السبيل الوحيد لتحقيق هذه المصالح، وأن للجماهير دورا فعليا في عملية بناء الدولة الإسلامية التي تعطيها حقوقها المادية والمعنوية، فمنظومة الدولة والمجتمع في الإسلام تعتمد على جهود جماهير المؤمنين في إدارة المجتمع بأكثر مما تعتمد على أدوات السلطة وأجهزتها.
يمكننا القول إذن بأن الخطأ الإستراتيجي الذي تفرعت منه عوامل الفشل هو أن الحركة الإسلامية إكتفت بالإستمرار في دعوة الجماهير لتأييد الحل الإسلامي مستخدمة ذات الخطاب الفكري والوسائل العملية التي قدمتها مرحلة حسن البنا ونجحت في تحقيق القبول والتعاطف، ولم تعمل على إستدعاء الجماهير للقيام بدورها الضروري في بناء المنظومة الإسلامية التي تعد المبادرات الشعبية جزءا مهما منها، لقد أعطوها دور المتفرج الذي لا يطلب منه إلا الهتاف والتشجيع (وإعطاء الإسلاميين أصواتهم الإنتخابية) دون أن يشرحوا لها الفروق الجوهرية بين المنظومة الإسلامية لإدارة المجتمع وغيرها من المنظومات، ولم يعرضوا عليها السبل التي ستحقق بها هذه المنظومة المنافع الحياتية للقاعدة العريضة من أبناء الشعب، ولم يطالبوها بأعمال محددة يجب عليها القيام بها للمشاركة في بناء هذه المنظومة والدفاع عن إستمرار الحكم الذي يقود عملية بناءها .. لماذا لم يفعل الإسلاميون ما كان في مصلحتهم أن يفعلوه؟ .. لأن قادة الحركات الإسلامية لم تعرف ما هو الشكل العملي للحل الإسلامي عندما يتحقق في زماننا، ولا الطرق الإجرائية المعاصرة التي يوفر بها المنافع الحياتية، ولم تعرف دور الناس في بناء المنظومة، ولا الكيفية التي يمكنهم بها الدفاع عنها .. هذا هو الأصل الذي تفرعت منه كل مظاهر الفشل التي بدأنا بها هذا المقال.
قد تبدو الفقرات السابقة شديدة العمومية والتجريد، كما تنطوي على مقولات أطلقناها دون برهان، وبعض هذه المقولات يتعارض مع مفاهيم عن الدولة والمجتمع يظن أغلب الحركيين أنها حقائق راسخة.. سنقوم بإذن الله بالنزول إلى مستوى أكبر من التفصيل، مع سرد الشواهد والبراهين على صحة مقولاتنا في المقالات التالية بإذن الله.
ملحوظة: لا أدعي الحكمة بأثر رجعي، ويجب أن أكرر ما ذكرته منذ البداية: أغلب ما أعرضه لم يخطر ببالي قبل الإنقلاب، أما القليل الذي كنت أعرفه فلم أكن مدركا للعوامل التي ضللت متخذي القرار عنه، وعلى الأرجح لم أحسن عرض أفكاري على من عرفتهم من الإخوان، وسأعرض لما أظن أنه المنهج الذي دس عليهم فعميت عليهم الرؤية، ولا يقدح هذا في إخلاصهم وتجردهم، وليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه، ولكل أجر ما عمل.