منذ 1 سنة | 2550 مشاهدات
لن ننشغل بالطريقة التي إحتل بها جمال عبد الناصر تلك المكانة العالية في قلوب المصريين والعرب، فما يهمنا هو تأثير الكاريزما التي تمتع بها الرجل ودور نظامه وأجهزته وإعلامه الذي أدى إلى التراجع المريع لفكرة الإحياء الإسلامي، وعلى الأخص لدى الجيل الذي تفتح وعيه في ستينات القرن العشرين، الذي لم يعرف أغلبه عن الإسلام إلا أنه واحد من الأديان الكبرى، وأن هذه الأديان ليست إلا مجموعة من العقائد والشعائر التي تتعامل مع الجوانب الروحية للإنسان، وأنها مسائل شخصية لا علاقة لها بالجوانب العملية للحياة، يتمسك بها بعض الناس لأسباب تخصهم، ونظر الكثيرون من مثقفي هذا الجيل إلى التدين على أنه لا يعدو أن يكون جزءا من الأعراف والعادات والتقاليد المتخلفة التي في طريقها إلى التلاشي مع تقدم المجتمع.
لكن في أعقاب حرب أكتوبر 1973، وبدون مقدمات، وكما العنقاء، إستعاد تيار الإحياء الإسلامي حيويته بين شباب الجامعات المصرية بطريقة عفوية وبإستقلال عن أي تأثير من الجيل السابق، شابته مسحة من السلفية الوهابية في المظهر والسلوك الشخصي، وتأثر بقراءة إبن تيمية وإبن القيم وأبو الأعلى المودودي والصلاة في مساجد الجمعية الشرعية وجماعة أنصار السنة وحضور الدروس فيها، هذه الصحوة كانت تخدم ولا شك هدف السادات في القضاء على الحركة الطلابية الناشطة التي كان يسيطر على قيادتها اليسار الماركسي والناصري، لكنه بالتأكيد لم يخلقها، لقد تسامح معها وأعطى الضوء الأخضر لنشاطها وحاول إحتوائها لكنه فشل، إلى أن إنقلبت إلى معارضته معارضة صريحة عقب زيارته المشئومة إلى تل أبيب .. وقبل إنقضاء عقد السبعينات تفرق هؤلاء الشباب، بعضهم إنخرط في ما سمي بالدعوة السلفية (راجع المقال رقم 5 "السلفية المزورة")، وآخرون خرجوا مع جماعة التبليغ والدعوة، أو إنضموا إلى الجماعات الجهادية المسلحة، لكن غالبيتهم ذهب إلى الإخوان.
لماذا حصل الإخوان على نصيب الأسد من شباب صحوة السبعينات؟ لا أظن ذلك يرجع إلى جاذبية أو مهارة خاصة تمتع بها قادتهم الذين خرجوا من السجون أو عادوا من المنافي في بداية عهد السادات، في الواقع كان أغلب من يدعون للمحاصرات والندوات في الجامعات والأئمة الذين يسعى الشباب للصلاة خلفهم يوم الجمعة من غير الإخوان، وأغلب الدروس والمؤلفات التي إعتمدوا عليها في تكوين ثقافتهم الإسلامية لم تكن تقدم فكر الإخوان، على الغكس، كان الرائج بين هؤلاء الشباب في بداية صحوتهم (على الأقل في جامعة القاهرة حيث يمكن أن أكون شاهد عيان) هو التخوف من أن الإخوان بإسم فقه الدعوة قد يذهبون أبعد من المقبول في تقديم التنازلات .. ومع ذلك ما أن إنتهى عقد السبعينات حتى كان أغلب الشباب النشط إسلاميا قد إنحاز للإخوان فكريا إن لم يكن تنظيميا .. لماذا؟ (تقاسم الإخوان والجهاديون جامعات الصعيد، وتقاسم الإخوان والسلفيون جامعة الإسكندرية، أما جامعات العاصمة فلا تكاد ترى فيها عملا إسلاميا إلا تحت لافته "الله أكبر ولله الحمد").
التفسير الذي أرتاح إليه هو أن الإخوان، بخلاف غيرهم من السلفيين والتبليغيين والجهاديين، كانوا يملكون إجابات عن الأسئلة التي شغلت بال الشباب عندما بدأوا في معايشة الواقع خارج جدران الجامعة، أسئلة تتعلق بالكيفية التي يمكن بها نشر صحوتهم في سائر جنبات المجتمع بكل تعقيداته ومشاكله .. كان تراث الإخوان الفكري والعملي يمثل الإستجابة الأكثر ملائمة لهذا التحدي، فبعد عقدين من سيطرة الفكر القومي الإشتراكي الناصري على كل منابر الإعلام والفكر والثقافة ومناهج التعليم عادت المهمة الملحة أمام حركة الإحياء الإسلامي لتكون هي بالضبط ما تصدى له حسن البنا رحمه الله عندما أسس جماعته وصاغ فكرها وتنظيمها (أي إعادة حشد الجماهير حول غاية الإحياء الإسلامي) .. وجد معظم شباب الصحوة الأجوبة على تساؤلاتهم جاهزة عند الجماعة، ورثوها عن حسن البنا وإخوانه، فإقتربوا منهم أو إنضموا لهم.
في غضون عقد واحد إستردت حركة الإحياء الإسلامي حضورها القوي، وأصبح تطبيق الشريعة مطلب شعبي ساهمت كل فصائل الحركة الإسلامية، كل بطريقته، في ترسيخه، وبدا أن المرحلة الأولى من مراحل الإحياء الإسلامي قد إنتهت، مازال للعمل الدعوي أهميته، لكن التغير لن يتحقق إلا بالعمل السياسي، وبدأ الإخوان فعلا في تعلم مهارة الفوز في الإنتخابات، حتى أصبح إسقاط مرشحيهم في الإنتخابات البرلمانية يتطلب قدرا كبيرا من التدخل الفج الذي يمكن تجاوزه أحيانا، أما سيطرتهم على النقابات المهنية فلم يتمكن النظام من تحجيمها إلا بتعديل قوانين العمل النقابي .. لكن يبدو أن الإخوان لم يدركوا أن العمل السياسي يتطلب أكثر من مجرد إتقان إدارة الحملات الإنتخابية (راجع في هذه السلسلة المقال رقم 14 "لماذا تعجز جماعة الدعوة عن القيام بالتغيير" على الرابط http://www.assemelfouly.com/seriespost/351)، وكان هذا خطأ إستراتيجيا كبيرا دفعنا ثمنه جميعا، الإخوان، وكل الإسلاميين المخلصين، بل وكل المصريين، عندما فشل الإخوان في إدارة البلاد رغم تمكنهم من إيصال مرشحهم لمقعد الرئاسة في أعقاب ثورة يناير المجيدة، وشرح طبيعة هذا الخطأ وجوانبه المتعددة، والعوامل التي أدت إلى وقوعهم فيه، ودوره في تراجع الدعم الشعبي لحكمهم، هي أكثر ما سننشغل به في المقالات التالية بإذن الله، فلن نتمكن من علاج الخطأ إلا بعد أن نفهمه.