منذ 1 سنة | 2659 مشاهدات
حاولت في المقالين السابقين أن أوضح كيف كان الإخوان يفتقرون إلى الثقافة والخبرة اللازمة للعمل السياسي، لكن هذا لم يعقهم عن النجاح في إنجاز الهدف المرحلي الأول للإحياء الإسلامي، وهو نقل الحماس للفكرة من النطاق الضيق للنخبة المثقفة إلى رحابة الوعي الجمعي لعوام المسلمين، كان تحقبق هذا الهدف هو مأثرة حسن البنا رضي الله عنه (الترضي هنا على سبيل الدعاء، فلزم التنويه) بإستخدام خطاب وتنظيم وأساليب عمل ملائمة، لكن النزول إلى معترك العمل السياسي (الذي هو المنافسة على السلطة للفوز بها وإستخدامها في التطبيق العملي للفكرة على مستوى القوانين والنظم والإجراءات) يتطلب خطابا مختلفا، وتنظيما مختلفا، وأساليب عمل مختلفة، مع الإهتمام بجوانب إضافية لم يكن غيابها ليؤثر على فاعلية جهود الدعوة (راجع المقال رقم 14 "لماذا يعجز تنظيم الدعوة عن القيام بمهام التغيير") .. عندما حققت الحركة نجاحها الكبير في حشد مشاعر الجماهير خلف الحل الإسلامي غدا من الضروري الإنتقال لمراحل أكثر تقدما بإتجاه التنفيذ، لكن هذا النجاح بالذات أدى بالجماعة لتصور مفاده أن إستمرار التقدم لن يكون إلا بالتمسك بتراث البنا وعدم إجراء أي تغيير في الخطاب أو التنظيم أو الأساليب، بل وإلى التمسك بالوضع المركزي والمحوري لمنصب المرشد العام .. سنناقش التغيرات المطلوبة للإنتقال من الدعوة (التعريف) إلى السياسة (التنفيذ) عندما نصل إلى أداء الإخوان في الربع الأول من القرن الواحد والعشرين، أما الآن فدعنا نحاول الإجابة عن السؤال: لو كانت الجماعة تمتلك في أوائل الخمسينات قدرا مناسبا من مقومات الفكر والعمل السياسي، هل كانت ستقع في نفس المأزق الذي قادها إلى محنة 1954؟
يمكننا بالطبع أن نرصد عددا من المواقف التاكتيكية (الجزئية) التي لم توفق فيها قيادة الإخوان لإتخاذ قرارات سليمة أو إعطاء توجيهات واضحة، وقد يرى البعض أن تراكم الأخطاء التاكتيكية هو الذي قاد إلى الصدام ثم المحنة، لكن النظرة المتعمقة ستقودك إلى أنها مواقف فرعية كان يمكن إحتواء أثر الخطأ فيها ومعالجته، بل ربما أمكن تجنب وقوع أغلب هذه المواقف من الأصل، لو كان الإخوان قد تبنوا إستراتيجية ملائمة تنقلهم من مرحلة الدعوة الفكرية إلى مرحلة الفاعلية السياسية، لقد كان هذا الخطأ، من وجهة نظرنا، هو السبب الرئيسي في وقوع هذه المحنة التي طالت بقسوة أشخاص الإخوان كما أضرت بكل المكاسب التي حققتها الدعوة في مصر وعادت بها إلى وضع أقرب إلى وضعها في عشرينات القرن العشرين عندما بدأ البنا دعوته في 1928.
يرى كثير من المحللين المحترمين أن مصر كانت تعيش حالة حراك شامل يمثل إرهاصات ثورة شعبية حقيقية تتجمع سحبها في الأفق وتنتظر أن تستكمل القوى الوطنية حل خلافاتها لتشكل جبهة وطنية ديموقراطية تعمل تحت برنامج الحد الأدنى المتوافق عليه بين السياسيين والمقبول من كل شرائح المجتمع، وطنية تسعى للجلاء والإستقلال، وديمقراطية لمحاربة الفساد ومنع الملك من التدخل في الإنتخابات وتشكيل الحكومات (يرى المؤرخون المحايدون للحركة الوطنية في أعقاب الحرب العالمية الثانية أن الإخوان لم يتحمسوا لهذه الجبهة، أو رفضوها من أصله)، وأن دعم أمريكا للإنقلاب إنما كان لإجهاض هذه الثورة .. تغريك قوة هذا التحليل بالذهاب إلى أن الإخوان قد إرتكبوا خطأ إستراتيجيا كبيرا عندما شاركوا في الإنقلاب (أو دعموه منذ اللحظة الأولى في رواية أخرى) بدلا من الإنخراط في بناء الجبهة الوطنية الديموقراطية التي تقود الشعب لإستكمال ما بدأه في 1919، فالإنقلابات العسكرية لا تنتج إلا أنظمة ديكتاتورية، قد تكون وطنية مخلصة أو عميلة وخائنة، لكنها دائما قمعية مستبدة ترفض أي مشاركة سياسية وسينخرها السوس حتما بسبب غياب كل أنواع الرقابة بغض النظر عن توجهات قادة الإنقلاب عندما قاموا به (الإستثناء الوحيد هو عبد الرحمن سوار الذهب في السودان) .. ربما تتساءل: لماذا ظن الإخوان أن العسكر سيسلموهم السلطة بعد الإنقلاب أو يقبلوا بتقاسمها معهم .. لا أعرف، إلا أنه نفس السؤال الذي سيطرحه الإخوان على الليبرالين واليساريين بعدها بسبعة عقود.
من المعقول أن تفكر في أن الملك الفاسد الذي يعمل أغلب الوقت كرأس الحربة المحلي في خدمة المحتل الأجنبي هو عقبة يجب إزالتها بأي طريقة حتى نقلل من تكلفة الثورة .. إذا فكرت في أن الإنقلاب العسكري قد يكون طريقة مقبولة لتمكين الشعب من مقدراته ليقرر لنفسه فإن عليك ألا تقبل بتدخل العسكر إلا في ظل وجود تحالف جبهوي قوي يحظى بتأييد شعبي كبير يمكنه من أن يفرض على الإنقلاب أن يزيح الملك ثم يسلم السلطة للشعب فورا وبدون أي تراخي، وإلا فإن الإنقلابات تعرف دائما كيف تسيطر على مقاليد السلطة بالتدريج لتتحول إلى ديكتاتورية قمعية (إستخدم عبد الناصر نفس الطرق التي شرحها إفلاطون وأرسطو عن أساليب طغاة الإغريق في الإنفراد بالسلطة، وشاهدناها في تجارب الإنسانية مع الطغاة عبر العصور حتى وصلنا إلى ستالين وهتلر وموسوليني وعبد الناصر وصدام حسين .. إلخ) .. لكن يبدو أن تراث البنا الذي تمثل في صدام مع الوفد (لأسباب تتعلق بالدفاع عن الهوية الإسلامية) ورفض لفكرة التعددية الحزبية وإصرار على أن هذه الأحزاب لا تعبر عن مواقف شعبية وإنما عن طموحات الزعماء ..إلخ حال دون الإخوان والتفكير في مسألة الجبهة الوطنية الديموقراطية، كما أن ضعف قدرتهم في التحليل السياسي فوت عليهم دراسة طبيعة الإنقلابات العسكرية ومآلاتها، فظنوا أن شعبيتهم الكبيرة ستمنع عبد الناصر من التخطيط لتحطيمهم، والنجاح في تنفيذ ذلك، سواء كان قد تلقى أو لم يتلق الدعم من CIA، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أحمد الله عبد المحسن فرحات || ahmadofarahat@yahoo.com
رغم أنه يحمد لعبد الرحمن سوار الذهب رحمه الله تسليمه الحكم طوعا لسلطة مدنية منتخبة لكن عليه ملاحظات.. تردد في الإطاحة بالديكتاتور النميري في أول حراك الثورة، وهذا يدل عن عدم اقتناعه بشرعيتها ولكن اقتناعه بقوتها كأمر واقع مع مرور الأيام. توسطه لتسليم الضباط الرافضين لانقلاب البشير لأنفسهم دون ضمانات. استمرار تصالحه مع نظام البشير الذي هدم المسار الديمقراطي الذي أسسه سوار الذهب لكن يبدو عن اضطرار غير اقتناع، ورغم غدر البشير وقتله "لضباط رمضان" الرافضين لانقلابه الذين اقنعهم سوار الذهب بتسليم انفسهم.