منذ 1 سنة | 2000 مشاهدات
في 7 سبتمبر 1952 – ستة أسابيع بعد نجاح الإنقلاب – تولى محمد نجيب رئاسة الوزارة، وبعدها بيومين صدر قانون تنظيم الأحزاب، الذي أوجب على الأحزاب القائمة وما ينشأ منها مستقبلا أن تخطر وزير الداخلية بنظام الحزب، ومؤسسيه، وموارده المالية، وللوزير الإعتراض على تكوين الحزب أمام محكمة القضاء الإداري، وكلها قيود جديدة لم تكن موجودة في العصر الملكي، وقد صيغ هذا القانون بحيث لا يطبق على جماعة الإخوان .. في ذلك الوقت، ولعدة شهور قادمة، سيظل جماهير الإخوان هم أكبر سند شعبي للإنقلاب.
قدم حزب الوفد إخطاره في 21 سبتمبر، فإعترض وزير الداخلية على وجود مصطفى النحاس وعبد الفتتاح الطويل ضمن المؤسسين، لم يتقبل الوفد هذا الإعتراض في البداية، ثم أعلن بعد حوالي أسبوعين أن النحاس قد عدل مختارا عن رئاسة الحزب، وأن المؤسسين قد ناطوا به الرئاسة الشرفية، لكن الوزير صمم على الإعتراض، فإتبع الوفد الأسلوب الحقوقي الذي تمرس فيه، وإتجه إلى محكمة القضاء الإداري ليقدم محاموه دفاعهم الذي بدا شديد القوة مرتكزا على حقوق دستورية وسوابق واقعية، وحددت المحكمة يوم 18 يناير 1953 للنطق بالحكم، لكن الإنقلاب لم ينتظر المحكمة، فألغى الدستور في 10 يناير، وفي 16 يناير – قبل يومين من النظق بالحكم – أعلن حل جميع الأحزاب .. إنتهى رسميا العمل السياسي المستقل .. وفي خلال هذه الفترة تم إعتقال عدد من الساسة من مختلف الإتجاهات، العديد منهم كانوا من قيادات الحركة الشعبية المعارضة للملك والمقاومة للمحتل.
خلال الأشهر الستة التي كان فيها النظام الجديد يضيق على الأحزاب ليحلها في النهاية لم يبد الإخوان ولو بعض الإمتعاض من محاولات ضرب التنظيمات السياسية، ولم يحركوا ساكنا عندما صدر قانون حل الأحزاب، وشم نقادهم في هذا الموقف رائحة ميكيافلية بإعتبار أن حل الأحزاب سيخلي الساحة للإخوان ليكونوا وحدهم القوة الشعبية المنظمة، بينما يراه أنصارهم موقفا مبدئيا، إذ كان البنا يلح على ضرورة حل الأحزاب ودمجها في كيان واحد يتصدى لمواجهة الإحتلال وتطهير البلد من الفساد، وبنى هذا الموقف على فكرة أن تعدد الأحزاب لم يكن إلا نتيجة خلافات شخصية بين الساسة ورغبة كل منهم في الزعامة، ولا يمنعنا إجلالنا لحسن البنا وتقديرنا لدوره الكبير في إيقاظ الجماهير الشعبية وحشدها لتقوم بواجبها في الدفع بإتجاه التغيير الإسلامي من القول بأنه قد جانبه التوفيق، إذ تجاهل وجود أحزاب شعبية مخلصة لقضايا الوطن لكنها تختلف في إجتهاداتها السياسية، والأهم من ذلك هو ما فصله الدكتور يوسف القرضاوي بعدها بعدة عقود في فتواه الشهيرة عن الديموقراطية ليوضح أهمية المحافظة على حق المواطنين في تكوين تنظيماتهم السياسية المستقلة، وبنى فكرته على أن واجب الأمة في القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مواجهة إحتمال إنحراف الحكام يحتم السماح للمختلفين بالتجمع القانوني لتكون لهم القدرة على القيام بالدور الذي لا يستطبعه الأفراد المبعثرون في مواجهة سلطة تملك أجهزة عديدة من جيش وشرطة ووسائل إعلام تستخدمها في توجيه الجماهير وقمع المخالفين، لقد عرضت هذه الفكرة في كتاب "الإسلاميين والديموقراطية" على الرابط: http://www.assemelfouly.com/books وفي سلسلة مقالات "في الشورى والديموقراطية" على الرابط http://www.assemelfouly.com/series/26 .. لقد بدا وكأن البنا يفترض أن الإخوان المسلمين هم التجمع الوحيد الذي يقوم على أسس مبدأية.
كان رفض التعددية السياسية وعدم الإعتراف بمشروعية الإتجاهات المختلفة وحقها في تكوين تنظيماتها المستقلة نقطة ضعف كبيرة في فكر الإخوان المسلمين السياسي عانت منه حركتهم في طورها الذي بدأ في السبعينات .. سنناقش هذه القضية بتوسع أكبر عندما نصل إلى أداء الحركة الإسلامية في الربع الأول من القرن العشرين، لكن بغض النظر عن الموقف النظري فإن الضرورات العملية كانت تقتضي من الإخوان أن تدافع، ولو بغير إقتناع، عن حق كل التنظيمات السياسية في العمل المستقل وأن تحارب إتجاه النظام الجديد لتصفية القوى الموجودة، وتقر مبدأ أن وجود الحزب من عدمه تقرره جماهير الشعب وليس السلطة الحاكمة، ذلك أنها كانت تعرف (راجع المقال السابق) أن هذا الإنقلاب يعمل بإتساق مع الأهداف الأمريكية التي تحبذ إختفاء الإخوان (في هذا الوقت على الأقل)، فلا ينبغي أن يترك له الحبل على الغارب لتصفية كل القوى السياسية المنظمة، فبعد أن يخلو له الجو من كل القوى التي ستقف في وجهة الديكتاتوري فمن المؤكد أنه سيعمل على تصفية الإخوان بعد أن إنتهى من إحكام قبضته على الجيش وأجهزة إدارة الدولة لابد أن ينقض على الجماعة التي لا ترضى عنها أمريكا، ولا يرضى عنهم أي نظام حكم ديكتاتوري مستبد (حتى لو كان ذو خلفية إسلامية، فالإستبداد ينفر من أي تنظيم شعبي مستقل) .. من الصعب تصور أن الإخوان لم يدكوا هذا إلا إذا إفترضنا أنهم لم يفكروا فيه أصلا، فلو خطر ببالهم فحص الأمر لعلموا أنهم سيؤكلوا يوم يؤكل الثور الأبيض، ولله الأمر.