رسائل البنا .. البحث عن النظام السياسي

منذ 1 سنة | 616 مشاهدات

لا يقدم البنا في رسائله أي مطلب محدد لتعديل النظام السياسي، مع أنه أوضح جوانب للقصور فيه، وقد يبدو هذا غريبا من رجل أصر أنصاره وخصومه على أنه يريد تغيير النظام، لكنك لن تجد أي غرابة إذا فهمت الموقف كما نفهمه، لم يكن كلام البنا جزءا من عمل لتغيير النظام، وإنما فقط ليحرث الأرض لمرحلة قادمة، فهدفه كان إقناع الناس بعدم ملائمة النظام القائم، كي يساندوه عندما يأتي أوان التغيير.

          يحدد البنا ما اعتبره دعائم نظام الحكم في الإسلام في ثلاث: 1) مسئولية الحاكم، و2) وحدة الأمة، و3) إحترام إرادتها، ويشرحها في بساطة ووضوح شديد كشأنه في كل القضايا الفكرية، لكنه عندما ينتقل إلى المسائل العملية، أي التعديلات المطلوبة لإرساء هذه الدعائم، يبدأ عدم التحديد .. لا تجد تغيير معين يطالب به، بإستثناء إلغاء الأحزاب.

          فهو يقرر مثلا أن "الإسلام لا يأبى هذا التنظيم [التمثيل النيابي من خلال الإنتخابات العامة] ما دام يؤدي إلى إختيار أهل الحل والعقد" .. كلام واضح ومريح، لكن يضيف فورا "وذلك ميسور إذا لوحظ في أي نظام من نظم تحديد الإنتخابات صفات أهل الحل والعقد، وعدم السماح لغيرهم للنيابة عن الأمة" .. فيوقعك في الحيرة، لأنه يعطيك الإنطباع بأنه لا يرضى عن النظام الحالي لأنه يفتقر إلى شروط في مواصفات المرشحين، ولا يذكر هذه الشروط ويحيلك إلى صفات أهل الحل والعقد، وعندما ترجع إلى هذه الصفات التي ذكرها قبلها بسطرين تجدها أن يكونوا من واحدة من فئات ثلاث:

  • الفقهاء المجتهدون الذين يعتمد على أقوالهم في الفتيا واستنباط الأحكام.
  • أهل الخبرة في الشئون العامة.
  • من لهم نوع قيادة أو رئاسة في الناس كزعماء البيوت والأسر وشيوخ القبائل ورؤساء المجموعات.

ولو كنت معاصرا للبنا لسألته: ألا يكفي أن ينتخب غالبية أهل دائرة شخص ما لنعرف أن له فيهم نوع قيادة أو رئاسة؟ ألا يدرجه ذلك في الفئة الثالثة؟ فما هو بالضبط موضوع التحفظ؟ من هم الذين تريد إستبعادهم غير من تستبعدهم بالفعل القوانين بسبب سوء السمعة أو السوابق الجنائية وغيرها؟ .. يغلب على ظني أنه كان يشعر أن هذه المسألة لم تأخذ حقها من الدراسة وتحتاج لجهد إضافي لكن هناك ما هو أولي منها، فوضع هذا التحفظ ليمكنه تعديل الفكرة إذا تطلب الأمر.

          عموما تخرج بإنطباع أن البنا لا يشعر بالإرتياح عندما يضطر للنزول إلى التفاصيل، فتحت عنوان "مسئولية الحاكم" يقول "الأصل فيها في النظام الإسلامي أن المسئول هو رئيس الدولة كائنا من كان .." .. إستغربت عبارة "كائنا من كان"، فرئيس الدولة كما نعرفه من النصوص ومن سوابق الراشدين (رض) هو خليفة رسول الله (ص) الذي يبايع عن رضا وإختيار، ثم زال عجبي بعد أسطر قليلة عندما وصلت إلى إستشهاده بكلام الماوردي في "الأحكام السلطانية"، فقد كان الماوردي يكتب ليشرعن الأمر الواقع للخلافة العباسية في أشد عصورها إنحطاطا، عندما سيطر البويهيون (الشيعة) على بغداد نفسها، وأصبح الخليفة مجرد رمز (مشيها رمز بدل طرطور) يفوض (غصب عنه) السلطان البويهي، ثم السلجوقي، ثم المملوكي، بكل صلاحيات الخلافة، ولا يجد الفقهاء بدا من الإعتراف بشرعية هذا السلطان حتى يمكن إقامة الأحكام الشرعية (ربما نخصص بعض المقالات لنقد الماوردي بعدما كتبت العديد من الدراسات، بعضها رسائل أكاديمية، عن نظم الحكم في الإسلام، وإكتشفنا أنه لم يكن يستنبط من النصوص، حتى قال الدكتور حسين مؤنس أن الماوردي كان يتكلم عن الأحكام الكسروية).

          وتلمس الإرتباك عندما يريد البنا التوفيق بين الماوردي وبين ما  شرحه هو بنفسه من دعائم للحكم الإسلامي، فتجده يقرر أن وزارة التفويض عند الماوردي هي نفسها الحكومة البرلمانية  في الملكيات الدستورية المعاصرة، كما أقرها الدستور المصري، وأن وزراء التنفيذ عند الماوردي هم كالوزراء في النظام الرئاسي الأمريكي .. واضح أنه لم يدرسها بعمق، فالحقيقة أنه لا شبه ولا مقارنة، فالماوردي يتحدث عن رئيس دولة يصل لمنصبه بالوراثة (أو ولاية العهد كما سموها حتى لا يعترفوا بأنها ملكية وراثية)، ولا دخل لإرادة الشعب في تنصيبه، وهو إذا فوض فإنما يفوض من يختارهم، أو من يفرضون أنفسهم عليه، وهو وحده الذي يحاسبهم (إن إستطاع) .. لا علاقة لهذا بالحكومة البرلمانية في الملكية الدستورية التي يشكلها حزب أغلبية يختاره الشعب ويحاسبها البرلمان .. والنظام الرئاسي المعاصر لا علاقة له بوزارة التنفيذ الماوردية، صحيح أن الرئيس الأمريكي هو الذين يعين ويوجه معاونيه المنفذين، لكن الرئيس نفسه يختاره الشعب، ويخضع تعيين معاونيه (الذين نسميهم خطأ وزراء) لموافقة الكونجرس، بل أن الرئيس نفسه يخضع لرقابة الكونجرس.

       ويستشهد البنا ببعض ما كتبه المتخصصون في مسألة غموض الدستور المصري في بيان العلاقة بين الملك والوزارة، ويوافق على ضرورة إزاله هذا الغموض، دون أن يقدم مقترحا واحدا لإزالته، بل ودون حتى أن يحدد الإتجاه الذي يحبذه للعلاقة بين الملك والحكومة.

          ويجدر بي أن أشير إلى معارضة البنا العنيفة للتعددية الحزبية دون أن أتوقف عندها طويلا، فقد تجاوزها الإخوان في بيانهم الشهير في 1994 بإعلان قبول التعددية، وإن كانوا لم يناقشوا أسباب إعتراض البنا عليها، ولم يوضحوا لنا سبب تخليهم عن هذا الإعتراض، هل تم بسبب تغير الظروف أم ببساطة لأنه لا عصمة إلا لمن عصم الله؟ .. لكن يبقى التساؤل: كيف قبل البنا خلافات المجتهدين في الأحكام الفقهية المتعلقة بالحلال والحرام ثم يرفض خلافات السياسيين التي ليست إلا إجتهادت في وسائل تحقيق المصالح الدنيوية؟

          هل ستظل مستعدا - بعد هذا الذي عرضته عليك، وغيره مما لم أعرضه حتى لا يطول المقال – لأن تصدق أن حسن البنا، ذلك المفكر العميق الرصين، قد أعلن كل هذه الآراء المتعجلة وهو بصدد تقديم رؤية للنظام المستهدف .. أم ستصدقني عندما أقول أنه لم يكن يحاول وصف النظام المطلوب، وإنما كان يقدم أمثلة ليوضح الفكرة العامة المجردة التي كان نشرها هو وحده هدف الحركة في هذه المرحلة.

شارك المقال