منذ 2 سنة | 2300 مشاهدات
يردد رافضو الحل الإسلامي أن فكر حسن البنا إتسم بالغموض والإبهام في ما يتعلق بأهدافه وطريقة تحقيقها (لم يقدم برنامحا سياسيا)، بعضهم يعزو ذلك لجهل البنا بأبجديات العمل السياسي، وآخرون يصرون على أنه الخبث الذي جعله يخفي أهدافه الشريرة .. وفي مواجهة ذلك كان الإخوان يعرضون العديد من المسائل التي إحتوتها رسائل البنا ومقالاته في السياسة والإقتصاد مؤكدين أن فيها كل المطلوب لصياغة برنامج سياسي، كأنهم يقرون من حيث المبدأ أن عدم تقديم البنا لبرنامج يعد قصورا في فكره .. هذا المقال يرفض الإتهام بنفس القدر الذي يرفض به الدفاع، فكلاهما ينم عن سوء فهم لمساهمة حسن البنا الكبرى في مسيرة الإحياء الإسلامي .. إتهام الخصوم لم يكن إلا صيدا في الماء العكر، أما إصرار الإنصار على وجود ملامح لبرنامج سياسي في فكر الإمام فقد إنطوى على سطحية في التناول أدت بهم إلى أخطاء كبيرة في المراحل التالية سنعرض لها في ما بعد، أما الآن فدعنا نتمعن في هذه القضية.
يمكن للمفكر أو الفيلسوف أن يكتفي بشرح أفكاره ومبادئه، أو بتناول بعض المشكلات ومحاولة التعرف على أسبابها ثم لا يزيد، لا تثريب عليه، لكن السياسي لا يملك هذا الترف، فهو يتوجه للناس يطلب منهم إعطائه السلطة، فإذا كان يتبنى أفكارا تختلف عن ما يقوم عليه النظام فلابد أن يوضح الطريقة التي سيحقق بها أفكاره، وأن يخبر الناس الذين يطلب منهم إنتخابه بالتعديلات التي يريد إدخالها، لا يمكنه أن يكتفي بذكر المشكلات ، فهذه يتكلم عنها كل الناس، ولا أن يعدد البدائل الممكنة للحل، فهذا يفعله الأدباء والصحافيون وحتى رواد المقاهي، أما السياسي فلابد أن يعين البديل الذي سينفذه، وأن يقدم وعودا عملية محددة لما سيقوم به عندما يحكم، ليس فقط لإقناع الناخبين بقدرته على تحقيق مصالحهم، وإنما أيضا، وعلى نفس الدرجة من الأهمية، ليعرف أعضاء حزبه المهام التي سيكون عليهم القيام بها عندما يصبحون هم الحكومة، ولتجهز هيئات الحزب الخبرات والمهارات المطلوبة لتنفيذ هذه المهام، سواء بتدريب بعض الأعضاء أو بإستقطاب أعضاء جدد .. هذا فارق جوهري بين الداعية والسياسي .. بين القائد الثقافي الذي يسعى لتغيير طرق تفكير الناس وأهدافهم في الحياة والقائد السياسي الذي يسعى لتغيير واقعهم.
أعلن البنا أن خطته للإحياء الإسلامي تمر بثلاث مراحل، التعريف ثم التكوين ثم العمل، وعندما إستعجله بعض الإخوان يطلبون القيام بعمل ما في إتجاه التغيير أوضح لهم أنهم ما زالوا في منتصف مرحلة التكوين، ومن التهور أن يحاولوا البدء في العمل قبل إنتهاء هذه المرحلة، والشعب نفسه لم يصل إلى النضج الكافي بحيث يقدم الدعم الضروري لبناء دولة إسلامية، هذا يؤكد أنه في كل ما أثاره من مسائل لم يكن يحاول تقديم برنامج عملي لإقامة نظام إسلامي (سنعرض أهم المسائل التي طرحها في مقالات تالية)، وإنما كان كلامه جزءا من عملية إقناع الناس بان النظام القائم قد إبتعد عن تعاليم الإسلام، وأن من واجبهم العمل على تغيير هذا الوضع، هذا هو هدف العمل الإسلامي الذي قاده البنا بنجاح فائق في مرحلة الدعوة، تغيير الأفكار والمشاعر، ولم يكن قد إنتقل بعد إلى مرحلة تغيير الواقع، فلا أحد سيسأله عن البرنامج السياسي لهذا التغيير .. سيقول لك الخصوم: ولو .. ينبغي أن يكون لديه تصور واضح عن الهدف النهائي وعن طريقة الوصول إليه حتى يمكنه بناء الحركة القادرة على القيام بمهام التغيير عندما يحين أوانه.
إن أي برنامج عملي للتغير مرتبط تماما بالأوضاع القائمة لحظة البدء في تنفيذه، فبرنامج لتغيير نظام يستمد قوته من جيش إحتلال أجنبي قابع على ضفاف القناة في الأربعينات لابد أن يختلف عن برنامج لتغيير نظام يعتمد إستمراره على قوات جيش وشرطة من أبناء الوطن، والخطوات المطلوبة لحشد الجماهير لتغيير نظام ليبرالي تقوده أحزاب تعبر عن كبار الرأسماليين وملاك الأراضي المرتبطين بالغرب في الأربعينات لابد أن تختلف عن خطوات لتغيير نظام عروبي يرفع رايات إشتراكية أشد عالمانية وإستبداد ومرتبط بالكتلة الشرقية في الستينات، وهكذا، لا يوجد برنامج محدد للتغيير الإسلامي يمكن كتابته ووضعه في المكتبة لإستخدامه عند الحاجة، فالبرنامج هو مجموعة من الأهداف المرحلية والإجراءات العملية التي لابد أن ترتبط بطبيعة الخصوم ومصدر قوتهم، وطبيعة الشرائح الإجتماعية الداعمة للتغيير ومصدر قوتها ودوافعها للحركة، وبالظروف المحلية والإقليمية والدولية المواكبة لعملية التغيير، فلو كان البنا رحمه الله قد أعلن برنامجه للتغيير في الوقت الذي كان يكرر فيه أن أوان التغيير لم يحن بعد لكنا أول من يتهمه بعدم فهم عملية التغيير ومتطلباتها.
سيردون: حسنا .. هذا قد يفسر لماذا لم يقدم البنا برنامجا يصف الخطوات العملية للتغيير، لكنه لا يصلح لتبرير تقاعسه عن وصف النظام الذي يريد إقامته، فمعرفة عناصر هذا النظام ضرورية لمعرفة نوع التنظيم المطلوب للوصول إليه ومواصفات أعضاء هذا التنظيم الذين سيقومون بالأدوار المختلفة .. هذه نقطة لها وجاهتها، لكنها تحتاج لتفصيل نتركه للمقال القادم بإذن الله.