حسن البنا .. الإنجاز وحدوده

منذ 1 سنة | 678 مشاهدات

إذا قرأت "رسائل الإمام البنا" وراجعت الخطوات العملية التي إتخذها لبناء دعوته ستجد أنها تتوافق مع نتائج التحليل الإستراتيجي الذي قدمناه في المقال السابق .. سنعرض في هذا المقال القرارات الأساسية التي إتخذها ونربطها بهذا التحليل، مع أن منهجية التخطيط الإستراتيجيي لم يبدأ البحث فيها إلا بعده بحوالي نصف قرن، وذلك أولا لتدرك كيف كانت هذه القرارات صحيحة لأبعد مدى رغم طابعها المرحلي، وثانيا ليتضح لك لماذا نقول أنها كانت نوعا من الإلهام أو التوفيق الإلهي.

من يريد إحداث تغيير كبير في مجتمعه عليه أن يحدد الشرائح الإجتماعية التي ستتحمس لدعمه، وأن يميز في الشرائح الأخرى بين تلك التي لن تشارك في التغيير لكنها ستتقبله إذا حدث، وتلك التي ستعمل للنهاية على عرقلتة ومنعه .. ما هي دوافع كل منها وما هي إمكاناتها .. هذه مسألة محورية في قيادة عملية التغيير حتى يمكنك أن تحدد الخطاب المناسب الذي سيقنع الشرائح التي ستساندك ويستثير حماستها، وفي نفس الوقت لا يستفز الآخرين لمعارضتك (أو قمعك إن كانوا في السلطة)، ثم لتحدد الوسيلة الملائمة لتوصيل هذا الخطاب (أي تكون في ذاتها قادرة على حمله، و في مقدورك صنعها)، ستجد أن الشرائح التي يمكنها أن تدعمك وقتها وتتحمل تكاليف التغيير هي بسطاء الناس ومتوسطي الحال والشباب، وهي الشرائح التي توجه لها البنا فعلا، خاصة وأن المثقفين والمفكرين الإسلاميين قد إتضح عدم فاعليتهم إبان أحداث ثورة 1919، وستجد أن التنظيم الذي أقامه يتمتع بكل الخصائص المطلوبة لهذه المهمة، رغم عدم ملائمته للعمل السياسي، لكن البنا كان قد أجل العمل السياسي إلى مرحلة يكون فيها عود الحركة قد إشتد (العمل السياسي غير الكلام في السياسة، العمل هو المنافسة على السلطة للوصول إليها وإستخدامها في تحقيق الأهداف التي تتكلم عنها)، سنستفيض في هذه النقطة في ما بعد.  

ركز البنا على هدف رص وتكتيل الجماهير الشعبية خلف الغاية العليا في صورتها المجرد، ولم يتطرق إلى تحديد تفاصيل النظم والإجراءات التي بها ستتحقق هذه الغاية في دنيا الناس، ومن المهم أن نؤكد أنه لم يحدد شكل النظام الإسلامي الذي يمثل الهدف النهائي للحركة، ولو كنا مكانه لإتخذنا ذات الموقف لعدة أسباب، فنحن أولا لا نعرف، لأن الفكر الإسلامي لم يكن يعرف، ما هي النظم المعاصرة التي تصلح لتطبيق الشريعة، وثانيا حتى لا نضطر لتشتيت جهد أعضاء الجماعة بالبحث في موضوعات لن نحتاجها إلا في المراحل النهائية، وثالثا  حتى نغلق باب الخلافات المحتملة داخل التيار الإسلامي العريض حول طبيعة الأبنية والهياكل السياسية والإقتصادية والإجتماعية التي ينبغي إقامتها.

كان البنا رحمه الله يعلم أنه يسير على سلك مشدود وهو يحاول إستقطاب ولاء الجماهير الشعبية لمشروع آخر مختلف عن ذلك الذي يتبناه الوفد، القيادة المعترف بها رسميا وشعبيا للحركة الوطنية، ناهيك عن العراقيل الأخرى التي يسببها وجود قوات الإحتلال، وإستبداد الملك وأحزابه، فتجنب الحديث عن الحكم حتى لا ينجر إلى مواجهة مبكرة تجهض حركته قبل أن تستكمل نضجها ويصبح التغيير الإسلامي مطلبا ملحا في عقول ووجدان غالبية الشعب، وأنتج لخدمة هدفه المرحلي خطابا ناصع الوضوح، بسيطا بحيث يفهمه ويتبناه عوام الناس، وعميقا بدرجة كافية بحيث يقبله ويدعمه المثقفون، وبنى لحركته تنظيما متناغما مع الوظيفة المطلوبة منه: نشر الفكرة بين جماهير الشعب وعوام المسلمين في أسرع وقت، مؤجلا الحديث عن متطلبات التطبيق، لدرجة أن الكثيرين، ومنهم قيادات الجماعة نفسها، لم يدركوا أن "تطبيق الشريعة" لا يمكن أن يتم إلا عبر تغييرات جوهرية في بنية الدولة، فعندما تراجع الأطروحات التي قدمها في السياسة والإقتصاد لن تجد تصورا عن النظم والإجراءات المعاصرة التي يحتاجها تطبيق الشريعة، فلم تكن لديه شخصيا، رغم مواهبه الفريدة، المعلومات والخبرات اللازمة لوضع هذا التصور، ولم يكن الفكر الإسلامي بصفة عامة قد وصل إلى مستوى يؤهله للتعامل مع هذه المشاكل، هذه مقولة سيختلف معي فيها الكثيرون، لكني سأحاول أن أوضح لك بإذن الله خلال المقالات القادمة، ومن دراسة لمجموعة "الرسائل"، أن حسن البنا كان واعيا بأن أولويات العمل الإسلامي في هذه المرحلة ليس منها العمل السياسي ، ولذلك فقد تعاطى الإخوان مع السياسة تحت قيادته كجماعة ضغط تكتفي بمطالبة السلطة بتحقيق بعض المطالب، ريثما تصل الدعوة إلى النضج الفكري والقوة الجماهيرية التي تمكنها من الدخول في معترك المنافسة على الحكم ليطبق بنفسه ما يدعو إليه.

بإختصار: لقد حدد البنا هدفا مرحليا يقتصر فقط  على إستعادة الثقة وخلق الإنتماء والرغبة والحماس، أما العمل للتغيير الفعلي فمؤجل لما بعد تحقيق هذه المهمة التي يعد إنجازها شرطا لازما لابد أن يتم قبل أن نأمل في تحقيق أي تغيير إسلامي جوهري .. ستنبهر بهذه الشخصية الفذة، مثلي ومثل أعضاء الجماعة الذين رفعوه إلى مكانة سامقة يستحقها، الفرق بيني وبينهم هو أنني أدرك تماما أنه مهما كانت العبقرية أو الإلهام الذي ساعده على القيام بالإنجاز الكبير في تحقيق هدف المرحلة الأولى، فإنه بعد تحقق الهدف وإنقضاء المرحلة كان من الضروري أن نحدد هدفا مرحليا آخر أكثر تقدما مرتكزين على ما تحقق بالفعل، وأن نطور الوسائل، أو أن نبتكر وسائل جديدة، تتلائم مع هدف جديد ومرحلة مختلفة.

Generic placeholder image
Ibrahim Elhady || ib_elhady@yahoo.com

من المؤسف أنه وحتى تاريخه لا تتبنى الجماعة اي رؤية واضحة ويشبهها في هذا كل الفصائل المعارضة ومع غياب الرؤية يغيب برنامج العمل ويتشتت الجهد في شعارات مستهلكة لا تخدم عملية التغيير

شارك المقال