البحث عن بداية

منذ 1 سنة | 605 مشاهدات

عندما آلت قيادة الحركة الوطنية إلى الوفد في عشرينات القرن العشربن بدا كما لو أن العالمانية قد حققت نصرا حاسما .. هل هناك ما يمكن عمله لإستعادة زخم الإحياء الإسلامي؟

تعلمنا منهجية التخطيط الإستراتيجي أن الخطوة الأولى في عملية إتخاذ القرار الكبير (الإستراتيحي) هي تحديد الهدف النهائي، أو الغاية العليا، وعلى ضوء هذه الغاية نقوم بإستكشاف الواقع .. واقعنا الداخلي، لنعرف ما لدينا من عناصر قوة نعتمد عليها، وما نعاني منه نقاط ضعف لنحيد أثرها، والواقع الخارجي لنبحث عن فرص النجاح ولنتنبه للمخاطر والتهديدات، وبذلك نتمكن من رسم مسار واقعي نتحرك عليه من الوضع الحالي إلى وضع تتحق فيه غايتنا .. وليس الهدف هو أن نضع قائمة مفصلة بكل الأعمال المطلوبة حتى تحقق الغاية، فالمستقبل يحوي عناصر كثيرة مما لا يمكن التنبؤ به .. قد نتمكن من زيادة قوتنا، أو نكتشف نقاط ضعف كنا نجهلها، أو تفاجئنا الأطراف الأخرى بما لم نكن نتوقعه .. بإختصار فمع حركتنا ستتغير صفاتنا الذاتية وستتعدل البيئة الخارجية .. إن هدف التخطيط الإستراتيجي هو أن نقرر ما هو أفضل ما يمكن القيام به الآن كي نضع أنفسنا على المسار الصحيح .. أن نحدد الهدف المرحلي الواقعي الذي يمكن إنجازه لنحقق تقدما نحو الغاية، ثم سيكون علينا في ضوء الظروف المستجدة أن نعيد التفكير في هدف مرحلي أكثر تقدما، وهكذا حتى تتحقق الغاية .. هذه هي المنهجية، فكيف كنا سنطبقها لو عدنا إلى عشرينات القرن العشرين؟

 سنجد أن الغاية العليا لحركة الإحياء الإسلامي قد إتضحت الآن في فكر روادها: إستعادة حكم الإسلام لكل جوانب الحياة، الشخصية والسياسية والإقتصادية والثقافية والأخلاقية والتشريعية، وأما سائر الأهداف الأخرى، النهضة، التخلص من الإستبداد السياسي، التحرر من الإستعمار الأجنبي، التنمية الإقتصادية، وغيرها، فليست إلا فروعا لهذا الأصل، الوصول إليها غير ممكن إلا إذا تحمست الأمة لهذه الغاية .. في وجود قوات الإحتلال والملك المستبد وسيطرة النخب المتغربة لا بديل عن تحريك الجماهير لتطالب بالتغيير الإسلامي، فلماذا فشلت جهود الرواد، وما السبيل الذي يجب أن نسلكه لننجح في ما فشلوا فيه؟

تكاد تتركز قوتنا في الإيمان الراسخ لشعوبنا بأن الإسلام هو الدين الإلهي الحق، بالإضافة إلى تراث فكري عظيم يدعم هذا الإيمان، وإذا كان جانبا مهما من الأحكام التي تتعلق بالحكم وممارسة السلطة وإدارة الإقتصاد تحتاج إلى تنقية وإلى إجتهاد في مسائل مستجدة، فإن القضية المحورية، أن المسلمين يتحتم عليهم أن يعيشوا حسب أحكام الشريعة، لم يتطرق إليها أي تشوش أو تحريف، وإن كانت قد غابت وقتها عن وعي عوام المسلمين.

أما نقاط الضعف فيمكنك وضع قائمة طويلة، سيأتي على رأسها أن عوام المسلمين، القوة الوحيدة القادرة على الوقوف في وجه الإنحراف العالماني للنخب، تجهل دورها في قضية التغيير الإسلامي، وأن الحركة الإسلامية تفتقر إلى تنظيم قوي قادر على الوصول إلى هذه الجماهير وتحريكها (فكتب الرواد ومقالاتهم وأحاديثهم في منتديات العاصمة لا تصل إلى مجتمع تتفشى فيه الأمية ويسكن في القرى والأحياء الشعبية)، ثم أن الفكر الإسلامي لم يبلور بعد تصورا للصيغ العملية التي يجب المطالبة بتطبيقها كي يحكم الإسلام حياة الناس في عصرنا .. أغلب نقاط الضعف الأخرى ستندرج بطريقة ما تحت واحدة من هذه الثلاث.

كانت البيئة الخارجية شحيحة للغاية في ما تقدمه من فرص يمكن إستغلالها، غير أن القوى الثلاث الفاعلة في مصر، الإنجليز والملك والوفد، لم يكن أي منها راغبا في أن يصنف في خانة العداء للإسلام خوفا من غضب الجماهير (ربما كان هذا هو درس الحملة الفرنسية)، صحيح أن هناك أعمالا كانت تنشر تدعو لعزل الإسلام (ابرز الأمثلة "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق، وبعض كتب طه حسين) لكن العنف الذي تصدى به علماء الأزهر وعدد من الكتاب المسلمين لهذه الكتابات، مع وضوح التأييد الكاسح من الجماهير، أجبر القوى الثلاث على الصمت وعدم إبداء أي تأييد لفكرة عزل الإسلام عن الشأن العام (تذكر أننا لا نقول أن الوفديين كانوا إعداءا للإسلام، وإنما كانوا يؤمنون بفصل الدين عن السياسة.

بالطبع ستتعرض الدعوة لمخاطر تأتيها من القوى الإسلامية التقليدية، ربما لأنها تتوجس من كل جديد وتخشى منه على العوام، أو لأنها تريد الحفاظ على سلطانها عليهم، ولا تنس ما سيواجهك به المثقفون المتغربون من إتهام بالتخلف والرجعية والحنين إلى الماضي .. إلخ، لكن أخطر التهديدات قد تأتي من القوى الفاعلة إذا ظهر لها أن دعوتك قد تهدد مصالحها، الإنجليز سيقمعون أي دعوة قد تتطور إلى حركة تحرر وطني، والملك لا يريد تكتلا شعبيا معارضا جديدا، والوفد لا يريد منافسا سياسيا يمكنه سحب جزء من مناصريه .. يمكنك أن تخوض صراعا مع التقليديين والمتغربين في آن معا، سيعينك زاد كبير من التراث، لكن لو عرف أي من القوى الثلاث الفاعلة حقيقة دعوتك فسيسحقونها قبل أن يشتد عودها.

ربما تظن أن إكتشاف طريقة لتحريك الجماهير دون أن ينتبه لك واحد من الخصوم إلا بعد أن يشتد عودك هي مهمة سهلة، أو ليست شديدة الصعوبة، لأنها قد تحققت فعلا، وعلى يد شاب لم يتجاوز الثانية والعشرين من عمره، حديث التخرج من كلية دار العلوم .. صدقني عندما أقول لك، وأنا المتخصص في التخطيط الإستراتيجي، أنني لا أجد تفسيرا لقدرته على مجرد معرفة المهمة الملحة للحركة الإسلامية في ذلك الوقت، ناهيك عن النجاح في إنجازها، إلا بالتوفيق إلهي .. ليس في هذا أية مبالغة، رحم الله حسن البنا ورضي عنه.

شارك المقال