منذ 2 سنة | 2100 مشاهدات
إعتمد قادة الحراك الشعبي في نهاية عصر إسماعيل على المفاهيم الإسلامية لدعم مطالبهم بزيادة سلطات مجلس شورى النواب والحد من إسراف الخديو وإستبداده، فقد كانوا إما من تلاميذ الإفغاني أو من أبناء الفلاحين الذين صعدوا في السلم الإداري والإجتماعي حاملين معهم إسلامهم التقليدي، فكانت إسلامية الدولة والمجتمع والنظام من المسلمات التي لا تحتاج لتأكيدها أو الدفاع عنها، وبعد إنكسار هذا الحراك وإحتلال الإنجليز لمصر في 1882 لم نرصد أي معارضة جدية لهذا الإحتلال إلا وكانت تحمل إتجاها إسلاميا واضحا، وبرزت قيادة مصطفى كامل وخليفته محمد فريد وحزبهما الوطني كمدافعين عن وحدة العالم الإسلامي (الجامعة الإسلامية، ومطالبين بزيادة الإرتباط بدولة الخلافة، وبإعتبار وجود القوات الإنجليزية في مصر كعدوان على حقوق الخليفة العثماني صاحب الولاية الشرعية.
لا أملك تفسيرا لذلك التحول الذي طرأ على إتجاه الحركة الوطنية المصرية في سنوات معدودة لتتبنى مسارا ليبراليا عالمانيا .. لا أرتاح للتفسير الذي يذهب إلى أنها مؤامرة إنجليزية صنعت من سعد زغلول زعيما وطنيا ليتمكن من قيادة ثورة 1919 ويتولى تحويل إتجاه المصريين، لا يمكن لشخص واحد أن يحول إتجاه شعب كامل في بضعة سنين، خاصة أن سعدا نفسه كان تلميذا للإفغاني ومشاركا في ثورة عرابي وأصابه بعض العنت بعد إنكسارها، وكانت له شعبية قديمة فإنتخب في مجلس النواب ثم وكبلا للمجلس، وظل منتميا للإتجاه الإسلامي حتى 1919، فقد كان واحدا من مجموعة السياسيين الذين إلتفوا حول السيد محمد رشيد رضا في ما سمي "مجموعة المنار"، وكانت مشاوراته التي بدأت في 1918 للبحث عن وسيلة للإستفادة من نهاية الحرب للحصول على الإستقلال تدور في المساجد، كما أن مصطفى النحاس نفسه تم ضمه لقياد الوفد كأحد ممثلي الحزب الوطني، حزب مصطفى كامل.
إذا كنت مصرا على أن سعد زغلول لم يكن معبرا عن الإتجاه الحقيقي لثورة 1919 ومجرد صنيعة إنجليزية فعليك أن تتساءل: لماذا لم يفرز الحراك الشعبي أية قيادات تعبر عن الإتجاه الإسلامي وتدافع عنه، لماذا إنتهى الكلام عن الجامعة الإسلامية وأصبحت "مصر للمصريين"، لماذا لم يعد الإسلام هو القوة الدافعة للنهضة والتنمية وأصبح "الدين لله والوطن للجميع" .. إنها عالمانية سياسية واضحة، حتى لو ظل العديد من رموز الوفد، ومنهم مصطفى النحاس، ملتزمين بالشعائر ومدافعين عن إحترام الإخلاق والأعراف الدينية، فقد أصبح فصل الدين عن السياسة مسلمة لا تقبل الجدل.
لا أرغب في إثارة أي شكوك حول إخلاص قيادات الوفد أو تعبيرهم عن الشعب، فقد إلتف حولهم الغالبية الساحقة من المصريين، ولا أريد أن أناقش هنا الأسباب التي أدت إلى تحول منطق المصريين من الدفاع عن الإسلام إلى الدفاع عن الوطن، ومن العمل على إصلاح حال الخلافة لتقوم بدورها فب قبادة النهضة إلى العمل على إنشاء دولة "حديثة" على النمط الأوروبي، من الدعوة لجهاد المحتل إلى إعتبار أن المفاوضات هبى الوسيلة الوحيدة لتحقيق الجلاء، فبغض النظر عن الأسباب كان هذا إنعطافا كبيرا، ومن وجهة نظر عالمانية براجماتية صرف كان تهديدا خطيرا لهدف تحقيق نهضة حضارية، سواء كانت إسلامية أم لا، ويرجع ذلك إعتبارين تناولتهما بالتفصيل في أماكن أخرى، هما بإختصار شديد:
الأول: إن إقصاء الإسلام عن السياسة والإقتصاد يعني بوضوح أنك ستتبع مسارا للنهضة على النمط الأوروبي، ولهذا النط ركائزه الضرورية التي لا يمكن أن يوجد بعض من أهمها في المجتمعات المسلمة، فمحاولة السير في هذا المسار محكوم عليها بالفشل، وفي نفس الوقت يعطبك الإسلام ركائز من نوع مختلف يمكنك أن تنجح بها في سلوك مسار مختلف، كما نجحت كل تجارب النهضة خارج الحضارة الأوروبية من خلال مسارات مختلفة (عن المسار الأوروبي وعن بعضها) إعتمد كل منها على ركائز من ثقافته، وللتفصيل راجع سلسلة مقالات "الإسلام هو الحل" على الرابط http://www.assemelfouly.com/series/16 ويمكنك أن تبدا من المقال الثالث.
ثانيا: القبول بالتفاوض كخيار وحيد معناه أنك لن تصل إلا إلى حل وسط، فلا توجد وسيلة لإقناع الإمبراطورية بالتنازل الكامل عن إستغلالك ونهب ثرواتك بإستخدام المنطق والبلاغة، وأيديولوجية الوفد، خاصة بعد أن سيطر على قيادته الباشوات الذين يمثلون الشرائح العليا من البورجوازية المصرية، لم تكن تهدف إلى الإنفصال التام عن الإقتصاد الإنجليزي، كانت تريد الوصول لوضع تصبح فيه الرأسمالية المصرية وكيلا للرأسمالية الإنجليزية، تحصل على جزء من المنافع التي لن يصل منها إلى الشعب إلا الفتات .. القبول بدور التابع للإقتصاد الإنجليزي سيعرقل فرص قيام الصناعات الإساسية، وسنقتصر على الصناعات الإستهلاكية المعتمدة على تكنولوجيا مستوردة لا يمكنها المنافسة إلا في الحدود التي يسمح بها المورد .. يمكن لأيديولوجية الوفد، إذا نجحت جهوده، أن تحسن من أوضاع الرأسمالية المصرية بالتراضي مع الرأسمالية الإنجليزية، لكنها ستعرقل فرص التنمية في مصر، ستجد تحليلا أوسع لهذه النقطة في كتيب بعنوان "بؤس الحل الليبرالي" على الرابط http://www.assemelfouly.com/books
كانت سيطرة الوفد هلى قيادة الحركة الوطنية تمثل إذن تهديدا لمستقبل مصر، حتى من وجهة نظر عالمانية، وكان التصدي لهذا الوضع الخطير هو واحد من المهام التي إستدعت وجود حركة كحركة "الإخوان المسلمين".