الإستجابة الصحيحة

منذ 1 سنة | 666 مشاهدات

يزعم الكثيرون أن تجربة محمد علي كانت هي أقوى إستجابات العالم الإسلامي للتحدي الغربي، بل يسمونه "باني مصر الحديثة"، أما نحن فنرى أنها كانت على العكس، إعترافا بالهزيمة الحضارية وقبولا بالتفوق الغربي وعملا بالمثل "إذا لم تستطع أن تناجزهم فإلتحق بهم"، فقد كان هدفه هو بناء دولة على النمط الأوروبي لعله يتمكن من الحفاظ على سلطته، لكن المشكلة، وكما أوضحت الدراسات التي ذكرناها، هي أن نهضة الأمة، أي أمة، لن تكون إلا إستنباتا من جذورها الحضارية، ولأن جذورنا إسلامية فلابد أن نبحث عن الإستجابة الصحيحة ضمن الجهود التي ظهرت داخل مربع الإسلام.

بإتساع العالم الإسلامي إنبعث المصلحون الذين حركهم الشعور بإبتعاد الممارسات، وأحيانا العقائد، عما جاء به محمد بن الله (ص)، أغلبهم غابت عنه حقيقة التخلف وطبيعة الخصم، فكانت إستجاباتهم ناقصة، وتجاربهم فورات توهجت لفترة ثم إنطفئت .. خذ مثلا محاولة محمد بن عبد الوهاب الذي شخص المشكلة في تفشي الشرك والوثنية (يرى بعض أبرز الإسلاميين من أهل بلاد الحرمين أن تقدير الوهابية كان مبالغا فيه بسبب توسع إبن عبد الوهاب في التكفير وتضييقه الشديد لنطاق العذر بالجهل، وأن وضعهم كان كشأن سائر بلاد المسلمين) فكان الحل الوهابي هو قتال المسلمين (الذين إتبعوه) للكفار (باقي الناس) وإدخالهم في حكم الإسلام، هذا هو أساس قيام الدولة السعودية .. هذه الوهابية تم إسقاطها ثلاث مرات، عندما قمع العثمانيون دولتي آل سعود الأولى ثم الثانية، أما السقوط الثالث فكان مؤخرا على يد آل سعود أنفسهم.

أما تجربة محمد علي السنوسي في المغرب، والتي يمكن تسميتها "الصوفية المجاهدة"، فكانت أكثر نضجا، فقد إعتمدت على إنشاء مجتمعات مستقلة في الصحراء ومكتفية ذاتيا، وعلم أتباعه أن العمل الإنتاجي هو جزء من العبادة، وخصص يوما في الأسبوع للتدريب العسكري إستعدادا للجهاد، ولم يكن لديهم إلا الأسلحة الشخصية يتدربون على إستخدامها .. ورغم إعجابي الشديد بالسنوسية فلا يسعني إلا أن أقرر أنها لم تدرس عدوها ولم تعد نفسها له، فمبثل هذا التسليح إنكسر جيش المماليك المحترف إنكسارا منكرا في أقل من يوم واحد أمام نابليون، فكيف يمكن أن يصمد السنوسيون غير المحترفين بقيادة عمر المختار أمام الجيش الإيطالي الحديث في القرن العشرين، وحقيقة أن موسوليني إحتاج إلى عشرين سنة كاملة للقضاء على الجهاد السنوسي تعطيك فكرة عن قوة إيمان هؤلاء الأبطال وشجاعتهم وتماسكهم وتنظيمهم .. لكن لله سنن لا تتخلف.

جاءت الإستجابة الصحيحة أولا على صعيد التأصيل الفكري، من مجموعة من أصحاب الرأي والنظر المسلمين المتناثرين .. كانوا ذوي خلفيات وخبرات متعددة لا يجمعهم إلا الإتفاق على أن أصل الداء هو تخلفنا الحضاري، وأن هذا التخلف سببه غياب بعض أهم تعاليم الإسلام، أو حسب عبارة الأفغاني "الحضارة والمدنية .. وليدة التمسك بجوهر هذا الدين.."، فإتجهوا إلى دراسة جوانب تخلفنا ليثبتوا أنها لم تنتج عن التمسك بالإسلام، كما زعم المتغربين، بل على العكس، لن يتأتى علاج التخلف إلا بالعودة إلى المنابع التي أعطت أمتنا قوتها في القرون الأولى، ولأسباب موضوعية، لم يكن هؤلاء الرواد قادرين على تقديم نظرية متكاملة، فقد كانت جهودهم فردية ومبعثرة، يفكر كل منهم حسب معلوماته وتجربته في الجوانب التي إحتك بها، فإذا حاولت أن تجمع أفكارهم فلن تجد فيها الإتساق والتناغم المطلوب في نظرية لتوجيه العمل، ففي مجال الحكم مثلا تجد بعضهم ينادي بتحويل الخلافة إلى ملكية دستورية يتولى فيها السلطة من يفوز بالأغلبية البرلمانية، وآخرون ينتظرون المستبد العادل الذي بإستبداده يقضي على الفرقة وبعدله يقيم شرع الله، ومنهم من يحسن الظن بالحكام ويتوجه إليهم لقيادة النهضة، وآخرون يرون أن مصيبتنا في حكامنا، وهكذا .. لا داعي في هذه العجالة لأن نستعرض كل أفكارهم، فإنجازهم يكمن في لفت النظر إلى أن التخلف سببه البعد عن أحكام الإسلام في الشأن العام (الحكم والمال)، وأن الحل ليس في مجرد العودة العمياء لما في كتب التراث الذي تلوث في مرحلة الإنحطاط ويحتاج إلى التنقية، وأن هذه التنقية يجب أن تتم داخل المرجعية الإسلامية الملتزمة بنصوص الوحي .. قد تجد هذا الكلام مألوفا اليوم لدرجة أن تظنه بديهيا، لكنه كان وقتها غريبا على آذان معاصريهم.

إذا قرأت كتب الأفعاني أو الكواكبي أو رشيد رضا وغيرهم، أو طالعت مقالات العروة الوثقى والمنار، فستجد أنهم قد أجادوا تشخيص مشكلة العالم الإسلامي، فلماذا لم تتحول هذه الأفكار إلى حركة للتغير في عصرهم؟ .. يخطر لي أن الإجابة من شقين، الأول هو أنه رغم أن التشخيص الصحيح نصف العلاج، فإن معرفة الحلول وتفعيلها يقوم به رجال أصحاب عقليات وخبرات مختلفة، ويجب أن يمضي بعض الوقت حتى يستوعب هؤلاء تشخيص الرواد ويتفاعلوا معه، والثاني هو أن الرواد كانوا يوجهون خطابهم للنخب، ويستخدمون وسائل للتواصل لا يمكنها أن تبلغ إلا هؤلاء النخب، الذين كانت الغالبية المؤثرة منهم قد تلوثت بدرجة أو أخرى بقيم الثقافة الغربية، فلم تكن الجهودالفردية ولا الكتب والمقالات قادرة على أن تحرك الأمة لأنها لم تصل إليها .. كان على حركة الإحياء الإسلامي أن تنتظر إضافة أخرى.

 

شارك المقال