منذ 2 سنة | 2300 مشاهدات
المسلم الصادق لا يمكن إلا أن يكون سلفيا، فهو يتبع الكتاب والسنة وفقا لمنهج التفكير الإسلامي الذي تعلمه الصحابة وتابعوهم من الوحي، وهو منهج يسمح بتعدد الأفهام، لذا تعددت مذاهبهم ، وبقي لنا منها الأربعة المتبوعة، وكلها مذاهب سلفية، لكن في العقود الأخيرة ظهر مذهب جديد يدعي أنه وحده ما كان عليه السلف، وأنه هو فقط مذهب أهل السنة والجماعة، ونحن لا نشكك في إخلاص أتباعه، لكنهم لم يدركوا أنهم قد غرر بهم في العديد من المسائل لخدمة السلطات المستبدة، فالأفكار التي يروجون لها تتعارض مع هدف إعادة بناء النظم السياسية والإقتصادية والإجتماعية على أسس إسلامية.
وهذا يختلف عن حالة المسلمين الذين لم تنطل عليهم التغريب في القرن التاسع عشر، ومنهم علماء الأزهر، الذين أدركوا الخطر الذي يحدق بالأمة نتيجة إبتعاد الطبقة الحاكمة عن الإسلام كمنهج للتفكير وطريقة للحياة، وهؤلاء منهم من صدق خرافة أن التحديث يحتم إتباع أسلوب الحياة الأوروبي، فتصوروا أن الدفاع عن الإسلام يتطلب منهم رفض أي تغيير، معتبرين أي حديث عن التجديد مجرد حيلة لإبعاد الأمة عن دينها، وبسبب هذا الموقف، الذي كان في جوهره حالة نفسية، لم يفطنوا إلى أن ما لديهم من موروثات كان خليطا من تعاليم وأحكام أنتجها فهم سلفنا العظيم لحقائق الوحي، مضافا إليها فتاوى وشروح أنتجتها مرحلة الإنحطاط التي إضطرت الفقهاء إلى التعامل مع واقع إبتعد عن الإسلام ويعجزون عن تغييره، فألجأتهم الضرورات إلى إباحة بعض المحظورات كي يتمكن الناس من التعايش مع واقعهم بـأقل الخسائر، وهذا الخليط هو الذي تسبب في إنهيار مناعة الأمة ووصولها إلى الوضع الذي أطلق عليه مالك بن نبي "القابلية للإستعمار"، لكن هذه الحالة تغيرت في العقود الأولى من القرن العشرين، وبالتدريج وافق مشايخ الأزهر على فتح باب الإجتهاد، وإعادة النظر في بعض التفاسير – خاصة في آيات الكونيات – التي تبنت أفكارا عن الطبيعة ثبت خطأها، وعلى تدريس بعض العلوم الحديثة للطلاب، وغيرها من الجوانب التي أنهت غربة العلوم الشرعية عن عصرنا.
أما المذهب الجديد الذي بدأ في الإنتشار عندنا في السبعينات والثمانينات فقد جاء به بعض الإسلاميين الذين هربوا إلى مملكة آل سعود في الخمسينات، وبعض الشباب الذين ذهبوا للعمل في الخليج منذ السبعينات، وتسمى هذا المذهب بالسلفية، وإكتسب بريقه بسبب مكانة بلاد الحرمين في قلوب المسلمين، وبسبب الأموال التي أغدقتها الدولة السعودية لنشره، بطبع كتبه وتوزيعها مجانا، وبتخصيص ميزانيات ضخمة للجامعات التي تروج له، فتغري الأساتذة بالمرتبات وتستقطب أفضل طلاب بالمنح، ثم لا تنس أن الشباب المصري كان قد فقد ثقته في الأزهر بسبب ميوعة مواقفه إبان الحقبة الناصرية، بينما خدعته أبواق آل سعود التي زعمت أن مملكتهم هي حصن الإسلام وأن ملوكهم هم خدام الحرمين.
لن ننشغل بأفكار الإمام محمد بن عبد الوهاب، فما يهمنا هنا هو وضع المذهب في خمسينات القرن العشرين بعد أن تحول إلى مؤسسة من مؤسسات الدولة السعودية، فهذا هو ما أثر في المهاجرين وعادوا به إلينا, ولا يهمنا من الوهابية (التي أطلقوا عليها إسم "السلفية" بعد أن ساءت سمعتها) إلا ما له علاقة بالشأن العام، فهذه هي التي ستؤثر على محاولات إستعادة الإسلام ليحكم حياة المسلمين كلها، وسوف نلاحظ أن لأغلبها آثار بالغة السوء.
بعد أن أصبحوا جزءا من الدولة صار المطلوب من علماء الوهابية دعم مشروعية النظام، ومن رفض منهم لعب هذا الدور تم إستبعاده وإسكاته وأحيانا عقابه .. لم يكن التحالف بين الوهابية وآل سعود جديدا، فقد نشأت الدولة الأولى نتيجة "شراكة" بين الأمير محمد بن سعود والإمام محمد ين عبد الوهاب .. شراكة حقيقية وتقاسم للسلطة، لكن الجديد هو أن يتحول المذهب إلى جهاز تابع للسلطة الملكية.
تعطي الوهابية لطاعة ولي الأمر بدون قيد أو شرط مكانا محوريا، فهو يعلم ما لا نعلم، ويفهم ما لا نفهم، ومعارضته تضعك فورا في معسكر الخوارج، وهم يعرضون فكرة طاعة الأمير المتغلب كما لو كانت واحدة من الطرق المقبولة للوصول إلى السلطة في الإسلام، ولا يذكرون التحفظات التي كان يذكرها فقهاؤنا الأعلام الذين أفتوا بجواز طاعة المتغلب إذا لم يمكن تولية من تختاره الأمة، وإعتبروها خروجا على التقليد وقبولا بأخف الضررين في ظل إنهيار سلطة الخلافة وبروز خطر الغزو الصليبي ثم المغولي (لتفصيل أكبر راجع الفصل الثالث من الباب الثالث في كتابنا "الإسلاميون والديموقراطية على الرابط http://www.assemelfouly.com/books).
والوهابيون لا يتحدثون في السياسات العامة ولا العلاقات الدولية ولا قوانين العمل ولا شئون الإقتصاد ولا في أي قضية تتعلق بممارسات الحكام، فهم يتحاشون الخوض في ما قد يقيد سلطة الملك أو من صلاحياته المطلقة .. لن تجد في الفكر الوهابي ما تتفق ولا ما تختلف معه في أي مسألة من المسائل العامة، ولا أظن أنني أبتعد عن الحقيقة عندما أقرر أن الإسلام في الطبعة الأخيرة للوهابية ليس إلا دين للخلاص الفردي، والجماعة عندهم ليست إلا حاصل الجمع الجبري للأفراد، ليصلح كل منهم نفسه فينصلح المجتمع تلقائيا.
مما سبق، ومن غيره، لا أرى من المهم أن نتعرض لمسألة هل كان هؤلاء الذين روجوا للسلفية المزورة عملاء للأمن أم لا، فالمذهب نفسه يعرقل عملية إستعادة حكم الإسلام للواقع بجعله هذا الواقع كله ضمن صلاحيات ولي الأمر، فمن الطبيعي إذن أن تدعمه أجهزة كل الدول التي تعارض الإحياء الإسلامي، و ليس بالضرورة أن بكون هؤلاء الذين يتلقون الدعم عملاء، فقد يقبلونه بعفوية لأنه يساعدهم على ترويج مذهبهم (وهذا لا ينفي الشبهات التي تدور حول بعض كبارهم).
سأترك للقارئ أن يراجع بنفسه كيف تعامل المنتمون لحركة الإحياء الإسلامي مع هذا التزوير، وسيكتشف أننا تقاعسنا عن كشف جوانبه الضارة عندما عاملناه كما لو كان مجرد إجتهاد مختلف، ولم نحاول كشفه كإنحراف فكري تم تحت تأثير سلطة قمعية إستبدادية رجعية مغتصبة للحكم فاقدة للشرعية (من وجهة نظر إسلامية)، وحسبنا الله ونعم الوكيل.