منذ 2 سنة | 2201 مشاهدات
تتحمل النخبة المتغربة التي أنتجتها تجربة محمد علي (راجع المقال السابق) المسئولية عن فشل كل محاولات النهضة والتنمية حتى يومنا هذا، وبرجع ذلك إلى إنفصالها فكريا ووجدانيا عن جماهير الشعب (توصلت علوم التنمية في العقود الثلاث الأخيرة إلى أن النهضة لن تتحقق إلا بإتباع مسار متناغم مع الثقافة التقليدية للشعب، عرضت هذا بتفصيل أكبر في سلسلة "الإسلام هو الحل" على رابط: http://www.assemelfouly.com/series/16)، ويمكنك أن تفهم الفرق بين النخبة التقليدية القديمة والنخبة المتغربة الجديدة إذا رصدت التغير الذي حدث في سلوك الشعب وقياداته عندما تنكسر قواته المسلحة وتقع البلاد تحت الإحتلال، لترى كيف إنتصبت كل قطاعات وشرائح الشعب المصري في كل مكان خلف القيادات الشعبية التقليدية، علماء الأزهر وكبار التجار ورؤوس العائلات والوجهاء .. إلخ، وظلت تقاوم حتى إنسحبت قوات الحملة الفرنسية، ثم عجزت حملة فريزر بعدها ببضع سنين عن تخطي المقاومة الشعبية في رشيد، وتقارن ذلك بإستسلام النخبة المصرية، التي كانت تقود حراكا وطنيا ديموقراطيا منذ نهاية عهد إسماعيل، للإحتلال الإنجليزي في 1882 وإنفضاض الجماهير من حولها .. سقط الحراك وقياداته من الذاكرة الجمعية للشعب فصارت الثورة تسمى "هوجة عرابي"، وحتى عندما تم إعادة الإعتبار لها بعد حركة الجيش في 1952 لم تذكر كثورة وطنية ديموقراطية قامت ضد حكم قمعي سفيه، بل سميت "ثورة عرابي"، الذي لم يكن إلا قائدا للجناح العسكري لجبهة وطنية ديموقراطية عريضة.
قلة من هذه النخبة الجديدة المتغربة هي التي إبتعدت عن الإسلام أو إنسلخت منه، لكن الأغلبية أرادت أن تجمع بين عنب الشام وبلح اليمن، أي أن تظل وجدانيا داخل دائرة الإسلام من خلال إحترام الإلتزام بالشعائر التعبدية الشخصية (العديد منهم ينخرط في طرق صوفية) بينما هي تحيا وتفكر على الطريقة الأوروبية (المتمدينة)، وتبنت هذه النخب المفتونة بالغرب منظومته القيمية بإعتبارها قيم التقدم والحضارة مقارنة بقيمنا التي تكرس الممارسات المتخلفة (لم تدرك المحتوى المتفوق لمنظومتنا رغم الشوائب التي دخلتها في عصور الإنحطاط .. منظومتنا متفوقة من وجهة نظر النهضة والتقدم، لكننا لم نحسن تنقيتها، راجع مقالنا "المأزق العالماني" على الرابط http://www.assemelfouly.com/seriespost/168) .. أما مقاصد الشريعة فقد غابت تماما عن فكر هذه النخب وورثتها المعاصرين .. وهذا يفسر هشاشة الدعم الشعبي الذي تلقته الحركة الديموقراطية الوطنية في عهد إسماعيل .. المهم أن معظم رجال هذه النخبة يصعب إقناع الشخص العادي بأنهم عالمانيون، فمنهم من يبدي إلتزاما شديدا بالشعائر وبأحكام الحلال والحرام في المسائل الشخصية، وفي نفس الوقت هم بالتأكيد ليسو إسلاميين لأنهم لا يهتمون، بل لا يعرفون، مقاصد الإسلام في الشأن العام، ولا يرتبطون بهدف إستعادة حكم الإسلام للحياة.
بعد أربعة أو خمسة أجيال لم يعد مثقفونا المتغربون يرون أنفسهم غرباء عن الواقع المصري، فقد إستخدموا مناهج العلوم الإنسانية الغربية (في السياسة والإقتصاد والإجتماع) في دراسة هذا الواقع، ويظنون، ويظن أغلب متابعيهم من الإسلاميين، أنهم قد فهموه فهما مستوعبا، وأنهم قادرون بإستخدام أدواتهم العلمية أن يصلوا إلى حلول ناجعة لمشاكلنا، ويظن أغلب طلابهم وقرائهم من الإسلاميين أن هذه الحلول مؤسسة تأسيسا علميا سليما .. وهذا هو مصدر الإرتباك، فعندما أراد الإسلاميون، الإخوان المسلمون تحديدا، أن يقدموا للأمة برنامجا للنهضة تبنوا الحلول المستنبطة من العلوم الإنسانية الغربية التي تأسست على المسلمات المادية عن الحياة والإنسان ودوافعه ومصالحه .. إلخ، مطلقين بذلك رصاص بنادقهم على أقدامهم (أرجو أن يكون هذا التعبير مفهوما للقارئ)، إذ أنهم أولا أرسلوا رسالة إلى جماهير الشعب بأنهم لا يعدون بشيء مختلف عن ما يعد به الآخرون، بل أن الآخرين ربما كانوا هم الأقدر على تحقيق هذا البرنامج، فهم ليسو بعيدين عن الدين (في عيون عوام المسلمين التي لا ترى من الدين إلا شعائره) وهم الأعلم بشئون الدنيا، فلماذا يجب على الجماهير أن تدافع حتى النهاية عن بقاء الإسلاميين في السلطة؟ ومن جهة أخرى فإن برنامج الإخوان عانى من أغلب العيوب التي تعاني منها البرامج التي تعدها النخب المغتربة، فخسر الإخوان ميزة أنهم حملة تراث الأمة وثقافتها وأفضل المرشحين – حسب مقولات علوم التنمية – لرسم المسار الملائم لنهضة هذه الأمة .. ربما يكون هذا الكلام غريبا على أغلب القراء الأعزاء، خاصة فكرة أن برنامج الإخوان لم يكن إسلاميا، لكننا سنستفيض بإذن الله في هذه النقاط في مقالات قادمة، لكن علينا أولا أن ننتهي من فحص واقع حركة الإحياء الإسلامي ومكوناتها والبيئة التي تتعامل معها، لن يمكننا بالطبع أن ندرس كل هذه المسائل دراسة مستوعبة، وإنما فقط ما نظن أنه يكفي لفهم عوامل الفشل وطرق البحث عن المخرج، والله المستعان.