أصل الحكاية

منذ 1 سنة | 751 مشاهدات

نحن في حاجة لأن نفهم ما الذي حدث، وكيف حدث، ولماذا حدث، ذلك الذي جرى في مصر في الفترة من يناير 2011 إلى أغسطس 2013، لكننا لن نستطيع أن نجد التفسير الحقيقي إذا حصرنا أنفسنا في فحص الأحداث التي جرت في هذه الفترة، فهذه الأحداث هي نتيجة تفاعل وصراع عدد من القوى المجتمعية المختلفة، وهذه القوى نشأت وتشكلت أفكارها وتوجهاتها، وإمتلكت بعض مكامن القوة وعانت من بعض عوامل الضعف، وإكتسبت طبيعتها وثقافتها الحركية وترسخت علاقاتها بسائر القوى، كتداعيات لمواقف تاريخية وكخبرات تعلمتها خلال حقبة تتجاوز القرنين .. علينا أن نراجع هذه المرحلة التاريخية التي نعيش نتائجها اليوم لنفهم طبيعة الصراع ومن هم أطرافه وموازين القوى بينها (على الأخص: طبيعة التمايز في معسكر الإسلامين وعوامله، ومن هم خصومهم)، وإلا فستظل تحليلاتنا تعاني من السطحية والسذاجة والتبسيط المخل.

لا أعرف إسلاميا واحدا ينكر أن إزاحة الإسلام عن حكم حياة الناس كان نتيجة من نتائج خضوعنا للهيمنة الغربية، وإذا كنت ترغب في تغيير هذا الوضع فلابد أن تفهم كيف نشأ، والأهم هو أن تفهم عوامل إستمراره لما يقرب من قرنين، فهذه العوامل هي ما يجب عليك التغلب عليها لتستعيد حكم الإسلام.  

لم تبدأ الخطوات الجدية لمواجهة الغزوة الغربية الحديثة إلا  في نهاية القرن الثامن عشر، بعد أن منيت الجيوش العثمانية بعدة هزائم تخلت بسببها عن بعض الأراضي المهمة، لكن النخب الحاكمة لم تر من التحدي الغربي إلا جانبه العسكري وحده، ولم تدرك أن القوة العسكرية في العصر الحديث ليست إلا واحدة من مظاهر التفوق الحضاري، فإتجهت محاولات الإصلاح في بداية القرن التاسع عشر إلى تنظيم الجيش وتسليحه على الطريقة الغربية، مع تطوير الجهاز الإداري للدولة بهدف إحكام قبضة الحكام على الموارد المادية التي تحتاجها الجيوش، وإعتمدت التجارب الثلاث المشهورة في تلك الفترة (سليم الثالث ومحمود الثاني في الآستانة ومحمد علي في القاهرة) على نفس الوصفة: إستقدام المستشارين من أوروبا، وإرسال النابهين من شبابنا إليها لنتعلم منهم وسائلهم التي إنتصروا بها علينا كي نقاومهم بها، ولإن التجارب الثلاث لم تول أي إلتفات لحالة التردي الثقافي والحضاري التي تعاني منها الأمة فقد منيت كلها بالفشل، لكن هذا الفشل لم يعد بنا إلى نقطة الصفر التي بدأنا منها المواجهة، وإنما إلى وضع أسوأ، فقد خلف للعالم الإسلامي نخبة جديدة من السياسيين والإداريين الذين تعلموا على أيدي الأوروبيين، سواء المستشارين هنا أو الأساتذة هناك .. صارت الأغلبية الساحقة من القيادات في كل مكان من المنبهرين بالغرب، المقتنعين بأن سبيلنا إلى النهضة هو ترسم الخطى الأوروبية لإقامة دولة حديثة، صارت هذه النخب ترى، غالبا بكل الإخلاص والرغبة في خدمة أوطانها، أن تعديل قيم الشعوب وأنماط سلوكها وطرائق حياتها كي تقترب مما تعلموه عن المدنية والحداثة والتقدم هو شرط لازم للنهضة.

هذه النخب التي كانت وقتها جديدة هي السلف لتيار فكري غير متجانس في داخله لكنه يتفق على عرقلة التطبيق الإسلامي (وسنرى فيما بعد أنه من الإجحاف أن نضعهم جميعا في سلة واحدة ثم نسميها عالمانية)، وعلى مدار قرن ونصف أعادت هذه النخب إنتاج نفسها عدة مرات، فمن السطحية أن تفترض أن معاصرينا ليسو إلا ببغاوات تردد ما يقال لهم من الغرب، أو أن تتصور أنهم كلهم كارهين للإسلام، بالقطع تحاول مراكز البحث العلمي الغربية التأثير على أفكارهم وتوجيهها لخدمة مصالحه، ولعل بعض رموزهم مجرد عملاء لأجهزة غربية، لكن عليك أن تسلم بوجود تيار مصري أصيل وشريف غير كاره للإسلام لكنه رافض لما نعتبره نحن حلا إسلاميا، وأن تتفهم أطروحات هذا التيار وسبب قدرتها على التأثير في شعب متدين (وهو تأثير أعمق مما يظن الكثيرون)، وأن تعرف الفرق بين هذه الأطروحات التي يتبناها فريق من المخلصين الشرفاء الذين يمكن أن يكون منهم حلفاء للإسلاميين حتى نهاية الشوط, وبين من يعمل على إستغلال هذه الأطروحات لضرب الحركة الإسلامية .. سنحاول في المقال التالي أن نعرض تصورنا لطبيعة هذا التيار الذي يحمل وجدانا وطنيا يجمع بين الإسلام والعالمانية بنكهة مصرية خالصة، ولماذا يرتبك الإسلاميون عندما يتعاملون معه.

شارك المقال