الديموقراطية في دولة الرسول (ص)

منذ 5 سنة | 2133 مشاهدات

قد يصعب عليك العثور على ملمح واضح للآليات الديموقراطية في دولة الرسول (ص)، فلا إنتخابات ولا برلمان ولا فصل بين السلطات ولا ضمانات لحرية الرأي والتعبير ولا شيء عن تكوين الأحزاب السياسية .. إلخ، فمن المفهوم إذن أن يشك المسلمون فيما إذا كان من الجائز أن نقيم نظما ديموقراطية في دولتنا المعاصرة أم لا، ومن المفهوم أكثر ذلك الإعتراض الذي يصل إلى حد التكفير عندما يعلن البعض، ومنهم كاتب هذه السطور، أن حكم آليات ديموقراطية ليس هو مجرد الجواز، وإنما إقامتها فريضة شرعية في هذا العصر .. والواقع أني أرى، بعد بحث ومناقشات طالت أكثر من ربع قرن، أن أية دولة معاصرة لا يمكنها أن تكون إسلامية إلا إذا بدأت بواحدة من الآليات الديموقراطية المعروفة، ورغم أن توضيح هذه الفكرة يحتاج لأكثر من مقال فإن تأصيلها يستحق ما يبذل فيه من جهد، حتى لا يتشتت الإسلاميون خلف سرابات متعددة تعجز كلها عن تحقيق الأمر الإلهي بأن يكون للمسلمين دولتهم التي أمرهم فيها شورى بينهم.

أحسب أن السبب الرئيسي في المتاهة التي نعاني منها هو أننا ندخل للموضوع من المدخل الخطا، والتعريف الصحيح للمشكلة هو نصف الحل .. يبدو أننا لم نحسن تعريف المشكلة.

نقرأ الآية 39 من سورة الشورى التي تخبرنا أن المسلمين "أمرهم شورى بينهم" ثم نقفز فورا إلى تقرير أن نظام الحكم في الدولة الإسلامية هو الشورى، رغم أن الشورى لم تكن أبدا نظاما (راجع مقال "هل الشورى هي حقا نظام الحكم الإسلامي؟") .. لا نكتفي بذلك، بل نتعامل مع المسألة برمتها كأنها من الأمور التوقيفية التي حددت النصوص كل تفاصيلها .. مع أنك لو تمعنت في القضية فربما توافقني على أن جوهر المسألة هو: "الأمر"، والتأكيد على أنه أمرهم جميعا، يملكونه ملكية شائعة، لا يستبد به فرد أو فئة بغير موافقتهم ورضاهم، والشورى ليست أكثر من الوسيلة التي تتعزز بها هذه الملكية وتعبر عن نفسها، فما هو هذا "الأمر

"الأمر" هو النظام الجامع لإدارة الشئون العامة للجماعة المسلمة، والذي يضمن تماسك هذه الجماعة وإلتزامها بأوامر الله وأحكامه، وإقامة "الأمر" وتفعيله هو مسئولية الأمة كلها، كما أكد النص الوارد في الصحيفة: "وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو إبتغى دسيعة ظلم أو إثم أو عدوان بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم"، ولأسباب عملية صرف، وحتى لا تتحول الممارسة إلى فوضى تؤدي للفرقة، ينبغي أن تسند لفرد أو مجموعة من الأفراد مسئولية ضبط الأوضاع، حتى لو إقتضى الأمر إستخدام القوة لردع المفسدين والباغين، وهو ما يطلق عليه بالإصطلاح المعاصر "السلطة التنفيذية"، وجوهر القضية هو الطريقة التي تكون بها الأمة هي المالك الحقيقي لهذه السلطة، وتوضح لنا النصوص القطعية والممارسات العملية للصدر الأول خاصيتين جوهريتين في النظام الإسلامي والقائمين عليه:

الأولى:   هي أن بناء نظام "الأمر" هو شأن الأمة وحقها، هي التي تتشاور فيما بينها، بالطريقة التي تجدها ملائمة لهذا التشاور، لتتفق على الآليات والإجراءات التي تحقق أهداف الجماعة، وهي التي تختار الرجال الذين سيتولون القيادة لوضع هذا النظام موضع التطبيق، فلا النصوص حددت آليات أو إجراءات، ولا الرسول (ص) أوصى بالقيادة لأحد من بعده، وترك الأمر للمسلمين يختارون لأنفسهم.

والثانية:   هي أن سلطة أولي "الأمر" ليست مطلقة، فهم أولا ملتزمون، كسائر المسلمين، بأحكام الإسلام، وهم، ثانيا، لا يحتكرون إستنباط هذه الأحكام وتقريرها "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول .." النساء: 59، ففهم مصادر الشريعة يظل شائعا بين المسلمين (فلا كهنوت في الإسلام)، والجميع، حكاما ومحكومين، يشاركون في إستنباط الأحكام الشرعية (مع إحترام الشرط البديهي بالطبع، وهو أن يكون لديهم أدوات الإستنباط)، وفي تقرير الأحكام التي مبناها على العرف والمصلحة والتي تركت للأمة لتقرر فيها ما تشاء من باب العفو والإباحة، وإذا تبنى الحكام آراء لا ترضى عنها أغلبية الأمة فلها أن تنازعهم وتردهم إلى الفهم الذي عليه الأغلبية، صحيح أن الآية لم تحدد أسلوب النزاع وكيفية الرد إلى الله ورسوله، لكنها أعطت الأمة الحق من حيث المبدأ، وتركت لها أسلوب ممارسته.

وسنرى أن الخلفاء الراشدين (رض) قد إلتزموا بتحقيق ذلك في حدود إمكانات عصرهم وظروفه، لكن الممارسة في زمن الرسول (ص) كان لها طبيعة خاصة، مع أنها كانت محققة للمطلوب من الشورى (راجع مقال "الشورى: العودة إلى الجذور")، وخصوصيتها هذه تمنع من القياس عليها أو الإحتجاج بها عندما يكون الكلام عن غيره من الحكام.

لم يكن الرسول (ص) بصدد تعديل نظام قائم، أو حتى هدمه وإعادة بنائه على أسس جديدة، فلم تكن هناك في يثرب دولة من الأصل، بل في الواقع لم يكن هناك مدينة بالمعنى الذي نستعمله لوصف التجمعات البشرية (أرجو أن تكون الصورة التي إخترناها للمقال معبرة عن هذا)، كانت هناك مجموعة من الوحدات القبلية المستقلة تعيش في منطقة واسعة تتناثر فيها أماكن إقامتهم في مواقع منفصلة، بينها فراغات كبيرة تملؤها المزارع، ولكل منها دفاعاتها وحصونها المستقلة (فلم تكن الصراعات المسلحة تتوقف بينهم)، وتجمع بعض هذه الوحدات القبلية شبكة معقدة من التحالفات تقوم على أسس متباينة، فهناك مجموعة قبائل الأوس، ومجموعة قبائل الخزرج، يجمع كل منها الإنتماء لجد مشترك، ويجمعهما معا أنهما من أصول عربية وثنية، تتخللهما بعض الوحدات العربية المتهودة، ثم القبائل الإسرائيلية الثلاث المعروفة، لكل منها كيانها المستقل، يربطها برباط معنوي هش كونها من بني إسرائيل، لكن خلال الصراعات التاريخية في يثرب حدث أن بعضها تحالف مع الأوس والآخر مع الخزرج .. لم يكن هناك إذن أي كيان سياسي يتطلب إجراءات للتعامل معه، فعند وصول الرسول (ص) بدأ وضع نظام مستحدث لا يضم إلا من شاء الدخول فيه، دون أن يعني هذا أية مواجهة مع نظام آخر موجود على أرض الواقع.

لقد تأسست الدولة منذ اللحظة الأولى على رابطة الإسلام، من شاء الدخول فيها دخل، دون أن يعني هذا أنه ينخلع من أي دولة أخرى، والإنضمام إلى الكيان السياسي يقوم على الإختيار الفردي الحر، حتى وإن لم يصحبه الدخول في الإسلام كدين وعقيدة (لم يكونوا في حاجة إلى جمعية تأسيسية لتؤكد الأغلبية رغبتها في تعديل مرجعية الدولة من الوثنية أو العالمانية إلى الإسلام)، ورغم هذه الحرية الواسعة لم يكن مطروحا أبدا إمكانية إنتخاب القيادة، فلا يمكن تصور أن يجتمع المسلمون ليختاروا الرجل الذي يقترحون على الله أن يخاطبه بالوحي، ولا يحتمل أن يختاروا رجل منهم ثم يطلبوا من النبي الذي يتلقون منه تعاليم الإسلام وشرائعه أن يخضع لقيادته .. كانت قيادة الرسول هي القيادة الطبيعية لهذا الكيان الذي تأسس حول دعوته، وحرية المسلم في إختيار القيادة تتمثل في حريته في دخول الإسلام من عدمه .. ما كان من الممكن تصور إنتخابات رئاسية في وجود الرسول (ص)، لكن المسلمون كانوا يعرفون أن هذه حالة إستثنائية لن تتكرر، وبمجرد إنتقال القائد الأول (ص) إلى الرفيق الأعلى لم يشك واحد منهم في أن القيادة أصبحت منذ هذه اللحظة مسئوليتهم، وعليهم أن يتفقوا على طريقة لإختيار واحد منهم، سنناقش هذا الأمر بالتفصيل عندما ننتقل للكلام عن دولة الراشدين، لكن المهم هنا هو أن عدم إنتخاب أول رئيس للدولة لم يكن سابقة يحتج بها، فعلماء الأمة متفقون على أن الخليفة هو وكيل عن الأمة، ولن يكون خليفة إلا إذا وصل إلى الرئاسة بالرضى والإختيار وقبل وبايعه عامة الناس .. ونحن لا نجد الآن أفضل من الآليات الديموقراطية لتحقيق ذلك.

بقى أن نستكمل الصورة بالكلام عن البرلمان والأحزاب وضمانات حرية التعبير، ولذلك حلقات أخرى بإذن الله.

شارك المقال