منذ 5 سنة | 4372 مشاهدات
لم يصل الغربيون إلى فكرة العقد الإجتماعي الذي تتأسس عليه الدول والمجتمعات إلا في عصر النهضة، وهم في ذلك لم يستندوا على أية وقائع تاريخية تؤيد ما ذهبوا إليه، فلم تظهر الفكرة عندهم إلا في سياق محاولات ضرب الأساس النظري لحق الملوك الإلهي في الحكم، لكن قبلهم بألف سنة أقام المسلمون فعلا دولتهم في المدينة المنورة على أساس تعاقد واضح محدد البنود كتبوه في وثيقة إشتهرت بإسم "الصحيفة".
بعد ثلاثة أشهر فقط من وصوله بدأ الرسول (ص) مشاوراته مع المهاجرين والأنصار لوضع الأسس التي ستحكم بناء الجماعة الناشئة، وكلما وصلوا لإتفاق حول بند من البنود أملاه الرسول (ص) على علي بن أبي طالب (رض) ليدونه في الصحيفة، وإنتهت صياغة الجزء الأول قبل غزوة بدر، ثم أضيفت مقاطع وبنود أخرى على عدة مراحل حتى أخذت الوثيقة شكلها النهائي (قيل أنها كتبت على أربعة مراحل، وزادها البعض إلى ثمانية)، وحفظ علي (رض) الوثيقة في قرابه، وتوارثتها عنه ذريته، حتى نقل عنهم النص محمد إبن إسحق وأدرجها كاملة في سيرته الشهيرة، وروى عديد من الصحابة مقاطع مختلفة منها نجدها في كتب الحديث، وتحتوي الوثيقة على المبادئ السياسية والإقتصادية والإجتماعية التي حكمت المجتمع والدولة في عهد الرسول (ص) وخلفائه الراشدين (رض)، وما يهمنا هنا هو تلك الفقرات التي تتناول إدارة الشأن العام للأمة، فهذه هي التي تتعلق بأسس إتخاذ القرارات السياسية، وموقع الشورى منها.
تبدأ الصحيفة بعبارة تفصح بجلاء عن طبيعة المجتمع الجديد: "هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة من دون الناس" .. هذا كتاب من محمد (ص) بين المؤمنين، وليس منه إليهم .. هو الذي تولى صياغته، وما فيه هو جزء من رسالته، لكنه ليس أمرا صادرا منه إليهم، وإنما هو كتاب بينهم، يوثق ما إتفقوا هم عليه، وليس هؤلاء فقط، وإنما كل من إرتضى ما فيه ولحق بالمؤمنين وجاهد معهم (لاحظ كيف أكد على شرط الجهاد من أول يوم كعنصر من عناصر بناء الأمة، لكن هذه قضية أخرى).
ثم يلي ذلك بيان المتعاقدين، في عبارة تكررت بنصها تماما تسعة مرات، في كل مرة تتناول وحدة قبلية من الوحدات المؤسسة لهذا العقد، وهم: المهاجرون من قريش، وبنو عوف، وبنو ساعدة، وبنو الحارث، وبنوجشم, وبنو النجار، وبنو عمرو بن عوف، وبنو النبت، وبنو الأوس، تنص في كل مرة على أنهم "على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين" .. تقدم لنا هذه العبارات التسعة، ضمن أشياء أخرى، حقيقتين على درجة كبيرة من الأهمية ..
الحقيقة الأولى: هذه الأمة التي تمثل كيانا واحدا في مواجهة الآخرين تحوي داخلها وحدات قبلية على ربعتها، أي تدير أمورها الداخلية وتختار قياداتها وتوزع الإلتزامات المالية على أفرادها .. إلخ بالطريقة التي إرتضوها ومضوا عليها من قبل ما دامت لا تتعارض مع تعاليم الإسلام وأحكامه (وفي ما بعد عد الأصوليون "العرف" أحد أدلة الأحكام في ما لم يرد فيه نص)، نحن هنا أمام وضع يتسم بلامركزية أشبه بالكانتونات السويسرية أو الولايات الأمريكية، أي أن دولة المسلمين يمكنها أن تتكون من وحدات سياسية متميزة تحتفظ كل منها بنظامها الداخلي، المالي والإداري والإجتماعي، الذي ترتضيه لنفسها، على أن تخضع كلها للدستور الأعلى للأمة، وتلتزم بالدفاع الجماعي عن دولة المسلمين.
الحقيقة الثانية: "بنو الأوس" المذكورون هنا، والذين شاركوا في تأسيس الدولة التي هي أمة من دون الناس، هم مجموعة من ثلاث قبائل أوسية، وائل وأمية وعطية، يسمون معا أوس مناة، كانوا عند كتابة الصحيفة ما زالوا مقيمين على الشرك لم يدخلوا الإسلام بعد، فقد تأخر إسلامهم إلى ما بعد غزوة الخندق، لكن هذا لم يمنع أن يكونوا جزءا أصيلا من الأمة ما داموا قد قبلوا الأساس الإسلامي الذي قامت عليه وتعهدوا بالجهاد وحماية الوطن المشترك.
أما اليهود فقد تأخر دخولهم في الصحيفة، ووضعت لهم بنود خاصة أضيفت على الأرجح بعد موقعة أحد.
بعد عدة بنود تتناول الجوانب الإجتماعية والتكافلية بين أفراد الأمة يأتي البند الٍي يحدد المسئولية العامة "وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو إبتغى دسيعة ظلم أو إثم أو عدوان بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم" .. هكذا بكل وضوح وبشكل مباشر: إن مسئولية إقامة الشريعة والحفاظ على الأمن ومنع الفساد هي مسئولية كل المؤمنين المتقين .. الأمة هي صاحبة السلطان، تفوض بالطبع من يقوم ببعض ذلك أوكله، لكن هذا لا ينزع سلطتها الأصيلة ولا يخلي مسئوليتها ولا يشفع لها عند ربها أن تترك باغيا يبغي عليها أو على فرد من أفرادها، أو ظالما يفسد في الأرض، فسادا خاصا أو عاما.
وبالطبع لابد أن تحتوي الصحيفة على بند يحدد مصدر التشريع "إنه مهما إختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد (ص)" .. هم الذين يديرون شئونهم، لكنهم مطالبون بأن يردوا خلافاتهم إلى شريعة الله، فإن لم يستطيعوا الوصول إلى مراد الله ويتفقوا عليه فإن بينهم رسوله (ص)، قوله الفصل.
أقرت الصحيفة المبدأ الرئيسي: الأمة هي المسئولة، وهي صاحبة السلطان، وقد ألزمت نفسها أن تحتكم إلى شريعة الله عندما تدير كل طائفة منها شئونها الداخلية، أو عندما تكون على أمر جامع يخص الأمة كلها، وهي لم تحتج في هذه المرحلة إلى أية تفاصيل إجرائية أو ضمانات عملية بسبب خصوصيات وضع الجماعة الأولى، ولكن بإنقضاء العهد النبوي وغياب بعض هذه الخصوصيات تطلب أسلوب ممارسة الأمة لسلطانها بعض التعديل، سنخصص المقال القادم بإذن الله لهذه الخصوصيات، كي نلفت النظر إلى أن نصاعة المبدأ ووضوح الممارسة في العهد النبوي لا تعني إمكانية تبني نفس الوسائل والزعم بأنها ما زالت صالحة لتطبيق المبدأ مع تغير الظروف.
محمد هادى || hadi.almohajer@gmail.com
رائع هذا البحث والتقديم وهو تأريخ على اختصاره للوعى السياسى للامة