الشورى: عودة للجذور

منذ 5 سنة | 2015 مشاهدات

أحد أسباب الخلاف حول العلاقة بين الديموقراطية والشورى ينتج عن عدم الإتفاق على مفهوم الشورى، أحيانا نتيجة الخلط بين الشورى والإستشارة، أو الخلط بين المبدأ وبعض نماذج تطبيقاته التاريخية، هذا إذا إستبعدنا الخلاف الذي يفتعله فقهاء السلاطين دفاعا عن إستبداد سلاطينهم، فإذا كنا نريد معرفة جوهر الشورى كمبدأ فإن علينا أن نعود، كما هو الشأن في كل المبادئ الإسلامية، إلى السيرة .. إلى التطبيق النبوي، بعد أن نضعه في إطار الظرف التاريخي لنشأة الدولة الإسلامية الأولى، وبعد أن نعزل الآثار الناجمة عن الوضع الخاص لقيادة هذه الدولة التي كانت تقوم بوظيفة مزدوجة: نقل وحي السماء، الذي يعد المصدر الدائم والثابت للتشريع والقيم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولا نملك بإزائه إلا السمع والطاعة، ومن جهة اخرى فهو (ص) القائد السياسي للدولة، الذي يتعامل مع ظروف مختلفة، يعتمد في فهمها على خبرته البشرية وخبرة أصحابه الذين تنوعت مواهبهم وقدراتهم، ويأخذ في إعتباره الإمكانات المتاحة لدولته، وحجم وطبيعة المخاطر والتحديات التي تواجهها، ويقدر لكل موقف حلوله الظرفية الخاصة.

لقد ميز الصحابة رضوان الله عليهم، ثم المجتهدون من بعدهم، بين أقوال الرسول (ص) وأفعاله بصفته النبوية التي هي تشريع يتبع دون مناقشة أو مراجعة، وبين قراراته وأوامره كإمام للمسلمين، أو رئيس للدولة، يمكن مناقشته ومراجعته، والتي تعد لمن بعده سوابق تاريخية، تتبع إذا توافقت الظروف والأوضاع، لكن يمكن لخلفائه تعديلها إذا إستجدت أمور، كما أوقف عمر (رض) إعطاء بعض الأشخاص من الزكاة بعد أن فقدوا صفتهم ك"مؤلفة قلوبهم"، وكما سمح عثمان (رض) بإلتقاط ضالة الإبل بعد أن تغيرت النفوس وأصبح تركها طليقة يعرضها للسرقة، وكما رأى علي (رض) تضمين الصناع ما تحت أيديهم مما يقدمه العملاء لتصنيعه، بعد أن كانت يدهم زمن الرسول (ص) يد أمانة، لا يسألون عن تلفها ما لم يكن بتقصير منهم، والأمثلة غيرها كثير في كتب الفقه.

هذه الوظيفة الثانية للرسول (ص)، رئيس الدولة، هي التي ستساعدنا غلى فهم الصورة المثالية للشورى.

كان لرسول الله (ص) السلطة المطلقة في تشريع الأحكام، ليس بصفته ولي للأمر، وإنما بإعتبار وظيفته النبوية، وسنرى في مقالات تالية كيف تعامل خلفاؤه الراشدون، ثم خلفاء الملك العضوض، مع هذه السلطة، التي كانت منفصلة تماما عن السلطة التنفيذية، أو ولاية الأمر، لكنه (ص) كرئيس للسلطة المدنية لم يطلب لنفسه سلطة مطلقة، بل جلس هو وصحابته، جلسات عديدة، ليتفقوا على أسس الحكم، وصاغوها في وثيقة فريدة عدت أول دستور في التاريخ، التي إصطلح على تسميتها ب"الصحيفة"، وأعطى هذا الدستور للكيانات القبلية المنضوية تحت مظلة دولة المدينة صلاحيات لامركزية واسعة في إدارة شئونها المدنية(سنتعرض بإذن الله للطريقة التي نظمت بها هذه الصحيفة شئون السلطة في مقالات تالية).

وفي ممارسة الرسول لسلطته المدنية يمكن التمييز بين ثلاث مستويات من القرارات:

القرارات الجوهرية والمصيرية: كانت هذه تعرض للمناقشة العامة بين كل مواطني دولة المدينة بدون تمييز، عندما يوجه الرسول (ص) كلامه للجميع، كأن يقول مثلا "أشيروا علي أيها الناس" .. كل الناس، كلهم يدلي برأية، إلا من إختار الصمت، أو إنشغل بأموره عن حضور الإجتماع، وفي مثل هذه المسائل يتخذ القرار بالأغلبية (كما حدث في موقعة أحد).

القرارات السياسة:  وهي قرارات مهمة، لكنها ليست جوهرية في تحديد مصير الأمة، فكان يشاور قادة الجماعة والمقدمين فيها بحسب الأوضاع القبلية التي كانت تحكم العلاقات في المجتمع العربي، وكان الرأي في هذه القرارات أيضا للأغلبية.

القرارات الإجرائية:  والتي تتعلق بتفاصيل إدارة شئون الجماعة اليومية، فكان غالبا ما يختار أهل الخبرة في مثل هذه الأمور، ويستشيرهم، ثم يتخذ قراره.

ترى لماذا كان الرسول (ص) يحمل نفسه كل هذا الجهد، وهو أذكى الناس وأعقلهم وأحكمهم وأحرصهم على الصالح وأبعدهم عن الهوى؟ .. الجواب هو: حتى لا يأتي في مستقبل الأيام من يزعم أن ولي الأمر له من الحكمة والإطلاع ما يغنية عن المشورة، أو ما يجعله يشاور ثم يفعل ما بدا له.

هذه هي الشورى في صورتها المثالية النقية، لكن الآليات الإجرائية، النظام، التي إستخدمها الرسول (ص) إرتبطت بخصوصيات معينة، خصوصيات في طبيعة الدولة، وخصوصيات في طبيعة القيادة، وعند غياب هذه الخصوصيات سيكون على المسلمين صياغة نظامهم ليقترب إلى أقصى قدر مستطاع من المثال، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها.

سنبدأ بإذن الله في إستعراض الخصوصيات التي مكنت النظام النبوي من تحقيق المثال، وكيف إختلف نظام الراشدين بسبب غياب بعض هذه الخصوصيات، ولماذا نضطر نحن لإضافة إختلافات أخرى بسبب إفتقارنا لبعض ما تمتع به عهد الراشدين، بالإضافة لحصولنا على بعض الإمكانات التي أتاحها لنا التقدم التقني والفكري ولم تكن في زمانهم، ولو وجدت عندهم لعدلوا نظامهم ليستفيدوا منها .. والله المستعان.

شارك المقال