منذ 6 سنة | 2902 مشاهدات
يحمل أردوجان وحزبه رؤية لمستقبل تركيا: أن تصبح هي القطب الدي يجمع حوله مجموعة من دول المنطقة لتمثل كتلة قوية في مواجهة القوى العولمية التي تريد إحتكار قيادة العالم، ويرى مؤيدو أردوجان في هده الرؤية رغبة صادقة في تحقيق التكاتف بين دول العالم الإسلامي لصالح كل أبنائه، أما معارضوه فلا يرون فيها إلا رغبة في إعادة المجد الإمبراطوري العثماني، وتمحيص هدا الخلاف لا يؤثر على موضوعنا.
كانت المهمة الأولى في هده الرؤية هي إنتشال الإقتصاد التركي من الحالة المزرية التي كان يعيشها، فالضعفاء لا يمكنهم أن يقودوا غيرهم، ولم يختر أردوجان نظام السوق الحرة الليبرالي، فقد كان هو النظام الدي تبنته تركيا مند أن قرر أتاتورك الإلتحاق بالغرب، وتغيير هدا النظام يتطلب توافر شرطان جوهريان (إدا كان ينوي فعلا القيام بهدا التغيير)، أولهما هو الحد من سيطرة المؤسسة العسكرية الموالية للغرب، وقد حقق دلك بالفعل، وثانيهما هو أن يحقق لحزبة تأييد الغالبية الشعبية، وأن يكتسب لقيادته الثقة والمصداقية، فكان الخيار الوحيد هو العمل على إدارة الإقتصاد بدون إجراء أية تغييرات هيكلية ولكن بأفضل الطرق الممكنة لتعظيم الناتج الإجمالي .. لا يمكنك، والحال كدلك، أن تعرف ما إدا كان أردوجان يؤمن حقا بأن تحقيق رؤيته يمكن أن يتم في ظل هدا النظام الإقتصادي، أم أنه سار في هدا الطريق لضرورات مرحلية، حتى يكتسب ثقة الأتراك في قيادته ليستمروا خلفه عندما يأتي أوان التغيير.
مهما كانت القناعة التي بدا بها أردوجان حكمه فقد برهنت الأزمة الأخيرة على أن إقتصاد السوق الحر لا يمكنه إلا أن يكون جزءا عضويا من الإقتصاد العولمي الدي تسيطر عليه الولايات المتحدة وحلفاؤها، والضغوط التي يتعرض لها الآن تهدف إلى دفعه للتخلي عن رؤيته الطموحة، والإكتفاء بأن تكون تركيا مجرد دولة مزدهرة تدور في فلك الغرب .. في هده اللحظة المفصلية عليه أن يختار: إما أن يتجاوب بطريقة ما مع هده الضغوط كي يتخطى أزمته بسلام، ولنسمها إستراتيجية التراجع المنظم، أو أن يقرر المقاومة والإستمرار في السعي لتحقيق رؤيته، ولنسمها إستراتيجية التقدم للأمام.
قد تفترض أن رفعه لراية التحدي وكلامه بنبرة قوية وإعلانه التوجه إلى روسيا والصين .. إلخ يشي بأنه قد تبنى بالفعل إستراتيجية التقدم .. هدا إفتراض متعجل .. فكل هدا يصلح أيضا ليكون مقدمة للتراجع المنظم، فالقائد المحنك عندما يشعر أنه يواجه تحديا أكبر من قدراته لا يعلن فورا نيته للإنسحاب، بل يناور ليحصل على أفضل الشروط، ويحاول الوصول لحلول وسط، وليفعل دلك عليه أن يبرز لخصمه مكامن قوته واستعداده للقتال، حتى يعدل الخصم من شروطه (التي غالبا ما يكون قد بالغ فيها من الأصل إستعدادا لمرحلة التفاوض) .. إن العامل الحاسم الدي سيحدد إستراتيجية أردوجان هو في المقام الأول تقديره لموازين القوى الداخلية، فعليه أن يزن حجم المقاومة التي ستلقاها محاولته لتعبئة الأمة التركية خلف محاولة الخروج الكامل من التبعية للغرب .. سنقارن في المقال التالي بإدن الله المخاطر التي تكتنف كل من هاتين الإستراتيجيتين، وما تتطلبه من جهود وتضحيات، وهدا كل ما نستطيعه من هنا، لكننا لا نستطيع التنبؤ بالإتجاه الدي سيسير فيه، فهو وحده القادر على تقدير الموقف ومعرفة حجم قوته إزاء خصومه السياسين وإزاء الإختراق الغربي للمجتمع التركي خلال قرن كامل.