منذ 6 سنة | 2150 مشاهدات
وصلنا في مقالنا السابق إلى أن الأزمة أوضحت أن الرئيس أردوجان لا يمكنه أن يستمر في إنتهاج دات الخط الدي سار عليه مند وصوله إلى السلطة، وحتى نستكشف البدائل المتاحة أمامه علينا أن نفهم طبيعة الأسباب التي أدت إلى هدا الإنخفاض الحاد والمفاجئ في سعر صرف العملة التركية.
يبني أردوجان خطابه في مواجهة الأزمة على فكرة أن تركيا تواجه حربا إقتصادية من أمريكا، وفي نفس الوقت قيام البعض (في إشارة إلى الإمارات والسعودية) بشراء كميات كبيرة من الدولار لرفع سعره، ففقدت الليرة 20% من قيمتها في يوم واحد .. هده لا شك حقيقة، لكنها ليست كل الحقيقة.
تبنى أردوجان سياسة السوق الحرة، وأدارها بنجاح، فتمكن من زيادة الناتج الإجمالي من أكثر قليلا من 200 مليار دولار (وهو تقريبا الناتج الإجمالي المصري الآن) إلى أقل قليلا من تريليون دولار في 15 سنة، وهدا تطلب منه أن يفتح المجال كاملا لأصحاب الأموال التركية والأجنبية، وبالفعل تدفقت الأموال الأجنبية، على هيئة إستثمارات مباشرة من الأجانب وقروض من البنوك الأجنبية للمستثمرين الأتراك، وكان ثمن إرتفاع الناتج القومي هو زيادة المديونية التي وصلت إلى 467 مليار دولار، صحيح أن 70% منها تخص القطاع الخاص، لكن سداد مديونيات القطاع الخاص يمثل هو أيضا ضغطا على الموارد التركية من العملات الصعبة، ولن تكون هده مشكلة طالما كان المقترضون يستخدمون هده القروض بكفاءة وينتجون إنتاجا قابلا للتصدير يدخلون به مقابل ما يحتاجونه لسداد القروض وفوائدها.
من طبيعة الإقتصادات الحرة أن تمر بدورات من الرواج والركود، وكل معاهد إدارة الأعمال المحترمة تشمل مناهجها على مقررات تعلم طلابها أن أسباب هده الدورات كامنة في النظام ولا مفر منها، وتدلهم على أنسب الطرق التي يجب على منشآت الأعمال أن تتبعها في المراحل المختلفة من هده الدورة، ولا يرى التحليل النظري الليبرالي أن تتابع الرواج والركود شيئا سيئا، بل يعده الآلية التلقائية التي يتولى بها السوق تنظيف نفسه من المنشآت منخفضة الكفاءة، فضغط الركود يجعلها تنسحب طوعا أو كرها لتخلي المجال للمنشآت الأكثر كفاءة (نقاد التحليل الليبرالي والسوق الحرة يرون أنها أيضا الآلية التي تؤدي إلى تركز العمليات الإقتصادية في أيدي عدد أقل فأقل من المنشآت لتقترب السوق بإستمرار من حالة إحتكار القلة)، ودور الحكومات في مثل هده الإقتصادات هو أن تتخد التدابير التي تكبح جماح المغامرة المبالغ فيها عندما تكون الأحوال في رواج، وأن تساعد على تقليل حالات الإفلاس وإرتفاع معدل البطالة في حالات الركود، ودلك من خلال سياسات وأدوات أضحت معروفة لدى الإقتصاديين، ويعد اللجوء إليها من قبيل الحكمة التقليدية.
وقد بدا واضحا من حوالي عام كامل أن الإقتصاد التركي قد بدأ الدخول في دورة ركود، وهو أمر متوقع بعد 15 عاما من النمو المتواصل، فإنخفض الناتج القومي بنسبة 10% تقريبا، وارتفعت البطالة إلى حوالي 12% ووصل التضخم إلى 15%، ويبدو أن الرئيس أردوجان حاول قدر إمكانه ألا يستجيب للحكمة التقليدية كي يجنب مواطنية مصاعبها، فتوصياتها تعتمد أساسا على خفض الإنفاق الحكومي (وأول مرشح للخفض هو برامج الرعاية الصحية والإجتماعية التي يستفيد منها الفقراء) ورفع سعر الفائدة حتى يحتفظ الأفراد والشركات بأرصدتهم بالعملات المحلية ولا يندفعون لتحويلها للدولار، ورفع الفائدة – مع أنه يخدم سعر العملة ويكبح جماح التضخم – إلا أنه يؤدي لإنكماش النشاط الإقتصادي وزيادة معدلات البطالة، ويرى التحليل النظري أن هدا بمثابة الدواء المر الدي ينبغي تجرعه كي يتعافي الإقتصاد بأسرع وقت.
لكن الخروج على الحكمة التقليدية لإدارة السوق الحر كان يتطلب أن تتدخل الدولة للحد من هده الحرية، وهو الأمر الدي يبدو أن أردوجان لم يكن مستعدا له، فقد ضغط على البنك المركزي كي لا يرفع سعر الفائدة، دون أن يتخد أية إجراءات بديلة لحماية العملة الوطنية من خلال تقييد حرية تحويل الليرة إلى دولار، ربما كانت لديه خطة ما يزمع تنفيدها ولم يسعفه الوقت بسبب الإنتخابات الرئاسية المبكرة، المهم أن الضربة المتعمدة جاءته بالضبط وهو في أضعف حالاته، وهي ضربة تحاول إستغلال الضغط الإقتصادي لإجباره على تعديل مواقفه السياسية التي لا ترضى عنها القوى العولمية.
ولم أجد من المحللين الإقتصاديين الدين تناولوا الأزمة من دكر أن دورة الركود طبيعية، وأن تدخلا من الحكومة كان ضروريا ومنطقيا، فخصومه يحاولون إستغلال الأزمة لإدانته، إما بإتهامه بأن سياساته الخارجية المستقلة التي أغضبت القوى الكبرى كانت خاطئة ورعناء قادته إلى وضع أعقد من قدراته، أو بأنه يفتقر إلى الكفاءة المطلوبة لإدارة الإقتصاد بصفة عامة .. أما أنصاره فيميلون إلى تفسير الأزمة بالمؤامرة الخارجية وحدها، فالكلام عن أن الإقتصاد قد بدأ في منحنى التراجع من حوالي عام سيعطي الخصوم فرصة للتساؤل عن أسباب عدم إتخاد الإجراءات العلاجية في الوقت المناسب، وبالدات عن تدخل أردوجان لمنع البنك المركزي من زيادة الفائدة على الودائع بالليرة التركية.
يعد إنخفاض سعر الليرة أحد أعراض الأزمة فقط، وهناك أعراض أخرى، أهمها هو توقف الإستثمارات الأجنبية عن الدخول، ونزوح بعض ما دخل منها في السابق، وهدا العامل الأخير مثل ضغطا على سعر الليرة طوال العام الماضي (فالإنسحاب معناه أن المستثمر يحول إستثماراته التركية إلى دولارات ليأخدها معه ويرحل)، وكان تأثيره أكبر من تأثير الضربة الأخير، وهو لم يسبب حالة دعر عام لأنه حدث بالتدريج، لكنه أدى إلى خسارة الليرة حوالي 50% من قيمتها، ولا شك أن جزءا كبيرا من هدا النزوح كانت له دوافعه السياسية، بالدات عند المستثمرين الخليجيين .. هناك طيف واسع من البدائل التي يمكن التفكير فيها لعلاج هده الأزمة، تختلف التفاصيل التي يهتم بها المتخصصون، لكن كل هده البدائل يمكن تجميعها في مجموعتين، تمثل كل منهما بديلا إستراتيجيا صعبا، فعلى أردوجان أن يتخد قرارا إما بالتراجع عن سياساته الخارجية المستقلة ليقلل الضغط الخارجي، وربما يحصل مقابل دلك على بعض الدعم كمكافأة تشجيعية، أو أن يتخلى عن الخط الليبرالي القح الدي يدير به إقتصاده، ويجعل للدولة دورا توجه به القطاع الخاص كي تقلل من إنكشاف الإقتصاد للتدخلات الخارجية دات الأهداف السياسية (راجع مقالنا "عندما تتعارض الحرية مع الإستقلال").
طال المقال أكثر مما ينبغي، سنتناول بإدن الله متطلبات كل من هاتين الإستراتيجيتين ونتائجهما في المقال المقبل