منذ 6 سنة | 2500 مشاهدات
إن جوهر إستراتيجية التراجع المنظم هو الدخول في مساومات مع الغرب حول التنازلات التي يطلبها ليقتنع بأن حزب أردوجان قد تخلى عن هدف بناء تكتل إقليمي مستقل، ومن المؤكد أن الغرب سيشترط أن يظل الإقتصاد التركي مفتوحا على السوق العالمية بدون أي تدخل من الدولة، وأي محاوله لتحصين الإقتصاد المحلي ضد الضغوط الخارجية ستعد مؤشرا على أنه لم يتخل بعد عن رؤيته الأصلية .. على أية حال فمهما كانت التنازلات التي قد يقبلها أردوجان (إدا تبنى هده الإستراتيجية) فهو يعرف أن الغرب لن يعيده إلى موقف الحليف الحقيقي، فلن ينسى أبدا أن هدا الحزب هو حزب عقائدي، إدا إلتقط أنفاسه فسيعاود الكرة مرة أخرى، والتنازلات التي سيطلبها الغرب لابد أن تنطوي على ما يساعد على تقليم أظافر الحزب ليتسنى لهم الإطاحة الكاملى به في فرصة أخرى، ولا أظن أن أردوجان سيقبل التراجع الحقيقي الكامل، فهو بمثابة إنتحار بطيء، مجرد هدنة لتأجيل النهاية، ربما يقبل المناورة بتمثيل دور المتراجع ريثما يستجمع قواه، لكن التنازلات التي سيقدمها ستعمل على تشقق الحزب من الداخل وعلى تشتيت العديد من مكامن قوته .. هدا خيار لن يقبله إردوجان إلا إدا تأكد له أنه عاجز تماما عن التقدم.
أما إستراتيجية التقدم فلابد أن تنطوي على إعادة هيكلة للدور الإقتصادي للدولة بحيث يسمح لها بقيادة القطاع الخاص في مسار محصن قدر الإمكان من التدخلات والضغوط الخارجية، هدا لا يعني أننا نعرف مسارا معينا، فتجارب الدول الناجحة تقدم لنا نمادج متعددة، لكل منها شروطه للنجاح، ولكل منها نقاط قوته وجوانب ضعفه، فلدينا تجربة محاضر محمد في ماليزيا، حيث لعبت الدولة دور المايسترو الدي قاد جهود القطاع الخاص في تناغم مع أهداف الدولة، وهناك تجربة ألمانيا التي أسموها "إقتصاد السوق الإجتماعي"، حيث تدخل الحكومة وشركات الأعمال ونقابات العمال في تحالف ضمني لا تحكمه القوانين، لكنه ظاهر الأثر في طريقة عمل النظام، وتجربة الصين التي أسموها "إقتصاد السوق الإشتراكي" بقيادة الحزب الشيوعي الصيني وقطاعه العام، وتجارب أخرى مختلفة في اليابان والهند والبرازيل وغيرهم، تختلف كل واحدة عن الأخرى حسبما تمليه الأوضاع المحلية والثقافة الوطنية.
لكن مهما كانت الخطة التي سيتبناها النظام التركي للإستمرار في تحقيق رؤيته للإستقلال فلن يتمكن من البدء في تطبيقها فورا، فعليه أولا أن يخرج بإقتصاده من وضع الركود الحالي، ولمدة عامين أو ثلاثة لن يكون لديه إلا الدعم الدي يتلقاه من بعض القوى التي دخل معها ترامب في مواجهة إقتصادية، وهده القوى، مهما كانت نواياها طيبة، لن تقدم هدايا مجانية، فلكل منها مطالب عند تركيا، وعلى أردوجان أن يصل معها إلى حلول وسط.
فتركيا تقدم دعما للأقلية الصينية المسلمة (حوالي 90 مليون نسمة) التي تسعى للحصول على حكم داتي، الأمر الدي يجب أن يتم تسويته قبل أن تقبل الصين بالدخول مع تركيا في شراكة طويلة المدى، فإدا إستطاع أردوجان أن يصل إلى حل تتحسن معه أوضاع المسلمين الصينيين على أن يكفوا عن المطالبة بالحكم الداتي فإن الحكومة الصينية ستقدر هدا (وأتصور أن المسلمين الصينيين لابد أن يقدروه بدورهم)، وسيمكن الوصول إلى إتفاقيات شراكة وتعاون طويلة المدى تحقق مصالح الطرفين.
وعليه أن يصل إلى حل وسط مع روسيا وإيران في سوريا، لم يعد في مقدوره أن يشترط إنتصار ثورة الشعب السوري، ولا يمكنه في نفس الوقت أن يتخلى عنه تماما، كما لا يمكن لروسيا وإيران أن يتخليا تماما عن بشار الأسد، لكن روسيا أكثر إستعدادا لقبول حل وسط يقلم أظافر الأسد ويعطي للمعارضة بعض المكاسب الحقيقية والضمانات التي تمكنها من ممارسة العمل السياسي القادر على التغيير بالوسائل السلمية، هناك وسائل لتحقيق دلك، وروسيا لها مصلحة كبيرة في أن تكسب تركيا كحليف، لكن الوضع مع أيران أصعب، فله أبعاده العقائدية الشائكة، لكنه ليس مستحيلا، بالدات إدا إتفقت تركيا وروسيا على أهمية إعطاء المعارضة ضمانات العمل السياسي الديمقراطي, وقد أثبت أردوجان خلال حكمه قدرته على الوصول لحلول وسط مرحلية قابلة للتطوير إلى الأفضل مع تطورات المستقبل.
سيبقى عليه أن يعيد ترتيب الأوضاع الداخلية خلال هده الفترة إلى أن تنضج الظروف لإعادة هيكلة الإقتصاد التركي، وإدا كان القطاع الخاص لا يتنازل عادة بسهولة عن الحرية الكاملة بعد أن يصل إليها، فإن رجال الأعمال الأتراك لابد أنهم قد تعلموا درس الأزمة، وقد ترى أغلب الشركات الوطنية أن إجراءات تحصين الإقتصاد من الضغوط الخارجية، والتي تقلل الأرباح في فترات الرواج، ستكون مفيدة جدا في حالات الركود، حيث سيتمتع القطاع الخاص معها بشبكة أمان توفرها له الدولة مقابل تضحيته ببعض أرباح الرواج.
نحن نتمنى بالطبع أن يتبنى أردوجان إستراتيجية التقدم، فهي تخدم مصالح المنطقة كلها، لكن أمانينا لا دخل لها بالموضوع، فالعبرة كما دكرنا بموازين القوى الداخلية، وهل يمكن لأردوجان حشد غالبية شعبه خلف موقف النضال من أجل المستقبل أم أن الأتراك لم يدركوا بعد أهمية رؤية حزب أردوجان لمستقبل تركيا ولمستقبل المنطقة ولمستقبل أمة الإسلام، ولله الأمر من قبل ومن بعد.