محنة القطاع العام مع الإسلاميين

منذ 5 سنة | 1818 مشاهدات

في النصف الثاني من تسعينات القرن العشرين إرتفعت وتيرة خصخصة شركات القطاع العام في ظل وزارة عاطف صدقي ثم عاطف عبيد، وبدا أنه من الضروري أن يؤصل التحالف الإسلامي (العمل والإخوان) موقفا واضحا ومتكاملا من هذه القضية.

          كان لحزب العمل موقف واضح من القطاع العام، أصّله في الأساس أستاذي الراحل عادل حسين رحمه الله، وهو أن التنمية الإقتصادية لا يمكن أن تترك للمبادرات الفردية وحدها، ففي ظل إقتصاد العولمة وسيطرة الشركات متعددة الجنسيات لا يمكن لأي دولة ذات إقتصاد متخلف أن تحقق تنمية حقيقية دون دعم وحماية من الدولة، ولما كنت وقتها أمين اللجنة الإقتصادية لحزب العمل فقد كلفت باللقاء مع مجموعة من الإخوان لنتفق على الخطوط العريضة لموقف موحد.

          في أول إجتماع مشترك فوجئت بموقف الإخوان، الذي يتلخص في أننا يجب أن نعارض ونفضح الفساد الذي يكتنف عمليات البيع، أما تصفية القطاع العام بأسلوب عادل ونزيه فنحن نوافق عليها .. حاولت أن أشرح وجه نظرنا، لكني جوبهت بمداعبات مرحة (كانت مرحة فعلا، لكني خفت ألا تكون مجرد دعابات) عن الخلفية الإشتراكية التي تفوح رائحتها من موقفنا، فقد تأسس حزب العمل تحت إسم "حزب العمل الإشتراكي" زمن السادات كتحالف بين مجموعة إسلامية وأخرى من الناصريين المتدينين، قبل أن يقود الأستاذ عادل حسين بدعم من المهندس إبراهيم شكري رحمهما الله حمله نجحت في تغيير فلسفة الحزب وبرنامجه، الأمر الذي أدى إلى إنشقاق وخروج الأعضاء أصحاب الإتجاه الإشتراكي.

          أوضحت أن أهمية القطاع العام للتنمية في بلد متخلف لم يخترعها عادل حسين، ولا هي مقتصرة على الفكر الإشتراكي، فقد سمعتها في 1979 في محاضرات البروفيسور ريتشارد إيكاس، أستاذ إقتصاديات التنمية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وهو من أبرز المتخصصين في هذا العلم وواحد من مستشاري البنك الدولي ويعارض بشدة الفكر الإشتراكي، عندما كان يستعرض تجربة عبد الناصر، وذكر أنها لم تكن تجربة إشتراكية كما أطلق عليها، وإنما كانت السبيل الوحيد المتاح وقتها لمصر لتدبير رأس المال اللازم لإنشاء الصناعات الإستراتيجية التي لم يكن القطاع الخاص وقتها قادرا على تعبئة الأموال اللازمة لها ولا على تحمل المخاطر التي تكتنفها في مواجهة المنافسة الدولية، وأن هذا القطاع العام والخطة الخمسية الأولى التي إعتمدت عليه هو الذي مكن الإقتصاد المصري من تحقيق واحد من أعلى معدلات النمو في العالم (7% سنويا) بشهادة المؤسسات الدولية (بالطبع كانت له إنتقاداته على التوسع في القطاع العام الناصري بأكثر مما تتطلبه ضرورات التنمية، لكن هذا لم يمنعه من التأكيد على أن التصنيع، والثقيل بالذات، لم يكن ليتحقق لمصر بدون تدخل الدولة).

          فشلت في إقناعهم بأننا يجب أن نعارض الخصخصة نفسها، على الأقل بالنسبة للمشروعات الإستراتيجية والبنوك وشركات التأمين، وتحولت المناقشة عندها إلى التنديد بأسلوب عبد الناصر في مصادرة أموال الناس ونهبها، وما تعرضت له الرأسمالية المصرية من مظالم كبيرة في سبيل إنشاء القطاع العام، حاولت أن أوضح أن "إيكاس" لم يكن ملما بالممارسات الناصرية لكنه كان يقيم الدور الإقتصادي للقطاع العام في التنمية، وأننا لن نمانع أبدا من أن يحتوي البيان على إدانة ما قام به عبد الناصر (مع أن هذا سيكون خارجا عن سياق القضية)، لكننا الآن نتعامل مع واقع مختلف، فشركات القطاع العام التي يجري بيعها قد أنشيء أغلبها، وأهمها، من المال العام في الستينات، ثم أن الحكومة لا تتجه إلى إعادة الشركات إلى أصحابها، وإنما ستبيعها وتنفق أموالها.

          حاولت أن أنقل القضية إلى مستوى آخر، فتناولتها من وجهة نظر الأضرار التي ستعود على العاملين من جراء بيع شركاتهم، فلم يبد الإخوان أي شك في أن هذه الأضرار واقعة لا محالة، لكنهم رأوا أن علينا موازنتها وعلاجها بطريقة لا تضر بالإقتصاد، تأسيسا على أن تصفية القطاع العام هو من الإصلاحات المهمة التي يوصي بها علم الإقتصاد، وعلينا ألا نعارض تصرفا صحيحا ومفيدا من وجهة نظر علمية حتى لا يفسر موقفنا على أنه مجرد مناكفة سياسية.

          عند هذه النقطة إتضح لي أن الخلاف لا يتعلق ببيع القطاع العام بقدر ما يتعلق بتصورين مختلفين عن الإقتصاد في مجتمع مسلم، وهي قضية محورية ترتبط بالرؤية الإستراتيجية والأهداف العليا للحركة الإسلامية، ويجب أن تناقش وتتحدد في مستوى أعلى من مستوى اللجان الإقتصادية .. كنا قد أمضينا قرابة الساعات الثلاث، فاقترحت أن نتوقف لنعاود الإجتماع فيما بعد.

          نقلت للأستاذ عادل حسين ما دار في الإجتماع، وإتفقنا على أن الموقف يتطلب أن يقوم هو بنفسه بطرح الموضوع مع قيادات الإخوان بإعتباره من القضايا الجوهرية في صياغة برنامج الحركة الإسلامية، ويتجاوز في أهميته مسألة صياغة بيان في موقف معين.

          بدأت بعدها في العمل على صياغة موقف نظري متكامل للعلاقة بين القطاع العام والقطاع الخاص والدور الذي يلعبه كل منهما في التنمية الإقتصادية المستقلة من منظور إسلامي، لكن حزب العمل دخل في دوامة من الخلافات الداخلية إنتهت بتجميده، فتراخيت في البحث، ولم أنتبه إلى أهميته إلى بعد أن قرأت البرنامج الإنتخابي للرئيس مرسي، وسيجد القارئ المهتم ما وصلت إليه في نقد الإعتماد على القطاع الخاص وحده في كتابي "بؤس الحل الليبرالي" على هذا الموقع، لكن النقطة الأهم هي أني إكتشفت أن الفكر الإقتصادي الذي يتبناه الإخوان ربما كان هو السبب الأساسي في عجزهم عن إقناع القيادات الشعبية (من العمال والفلاحين وغيرهم) بوجود طرح إسلامي يحقق مصالحهم .. هذه قضية تستحق أن نخصص لها المقال التالي بإذن الله.

شارك المقال