رؤية الجيل الثاني

منذ 5 سنة | 1832 مشاهدات

في خريف عام 1980 كنت أتلقى مقررا في التخطيط للتنمية الإقتصادية، ضمن دراستي التمهيدبة للدكتوراه في معهد ماساتشوستس لتكنولوجيا (MIT)، ولما كان كل المطلوب في هذا المقرر هو التقدم بورقة بحثية، فقد إقترح الأستاذ أن أكتب عن الطريقة التي قد تتأثر بها الأفكار التنموية التي تنادي بها الحركات الإسلامية الآن عندما تصطدم بالواقع الفعلي إذا وصلت إلى السلطة (كان الأستاذ يعرف إطلاعي على أدبيات الإقتصاد الإسلامي وإهتمامي بالموضوع من مناقشة دارت بيننا قبلها بعام إثر إعلان حكومة الثورة الإيرانية إلغاء التعامل بالفوائد البنكية)، سعدت بالإقتراح، وظننت أني سأتمكن من كتابة ورقة جيدة في هذا الموضوع.

          طلب الأستاذ أن أبدأ بقراءة كتابين سماهما لي، الأول عن البدايات الأولى لحكم البلاشفة في روسيا، وكيف أضطر لينين بعد أربع سنوات فقط من إنتصار ثورته إلى تعديل البرنامج الإقتصادي الذي كان ينادي به، والأسباب الفعلية التي أدت لهذا التعديل، والمبررات النظرية التي ساقها لينين لذلك، أما الثاني فكان عن الفشل الذريع (من وجهة نظر معدلات النمو الإقتصادي) الذي عانت منه تجربة ماو تسي تونج في الصين، والبوادر التي يرصدها المراقبون لإتجاه خلفاؤه لإجراء تعديل جذري في السياسات الإقتصادية .. كانت هذه بالفعل بداية موفقة للدخول في الموضوع .. وفي نفس الوقت إتصلت بإتحاد علماء الإجتماع المسلمين في أمريكا الشمالية وكندا أطلب منهم ما لديهم في الموضوع، فتفضلوا بإرسال عدد من أبحاثهم المنشورة في دوريات مختلفة، وقائمة بأسماء بعض الكتب، أرسلت في طلب الكتب من مصر (وكنت قد قرأت أغلبها) وبدأت في إعداد خطة البحث.

          عندما وصلت الكتب والمقالات وجدت أني أقرأها الآن بعقل مختلف، بعد أن أتممت خلال الفصول الدراسية السابقة مقررات النظرية الإقتصادية وبعض مقررات التخطيط، لم أعد أرى أن هذه الأعمال تكفي لأي تخطيط عملي للمستقبل، فهذا الإنتاج الفكري كله لا يتناول القضايا العملية لتغيير النظام الإقتصادي .. لا يوجد فيه أي تصور للبرامج والإجراءات التي تتطلبها المرحلة الإنتقالية، إنه يتحدث فقط عن الوضع النهائي الذي ستؤول إليه الأمور في ظل سيادة القيم الإسلامية في الإقتصاد والسياسة والإجتماع، وحتى عند عرضهم لهذه الأوضاع النهائية لم يتطرق واحد منهم إلى الأشكال التنظيمية التي ستستخدم في إدارة الإقتصاد .. كان هذا محبطا للغاية، فقد إضطررت لتعديل موضوع البحث بسبب عدم توافر المراجع (مع الشعور بقدر من الخجل في مواجهة أستاذي، الذي إنتهز الفرصة ليذكرني بأن هؤلاء الذين وصلوا إلى السلطة وهم يملكون برامج تفصيلية إضطروا إلى تعديلها، فما بالك بالذين لا يحملون إلا أفكارا عامة فضفاضة فقط).

          في عطلة الشتاء، وعلى هامش المؤتمر السنوي لرابطة الشباب المسلم العربي في أمريكا، إلتقيت بأستاذ سوداني في الإقتصاد، وقد تم تعريفه في المؤتمر بأنه من الجيل الثاني للإخوان المسلمين، إنخرط في صفوف الجماعة في نهاية الأربعينات قبل أن يتم دراسته الثانوية، وبعد أن سمع الرجل الفاضل تجربتي المريرة تفضل علي بلقاء منفرد إستمر أكثر من ساعة ليشرح لي لماذا يعد أمرا طبيعيا ألا نجد في هذه المرحلة مؤلفات عميقة عن الأهداف المرحلية والإجراءات التنفيذية التي سيضع بها الإسلاميون فكرتهم موضع التنفيذ إذا آل الحكم إليهم.

          كان ملخص ما قاله هو أن الجيل الأول، جيل المؤسسين، قام لمواجهة هجمة تغريبية شرسة أرادت إقصاء الإسلام وإعلان أن الزمن قد تجاوزه، وقد نجح هذا الجيل في مواجهة التحدي وإثبات حق المسلمين في التمسك بالإسلام، أما الجيل الثاني، الذي ينتمي محدثي له، فقد كانت معركته هي إثبات جدارة الإسلام بقيادة مجتمعاتنا في كل الجوانب، وقد نجح أو أوشك على النجاح في كسب جماهير شعوبنا إلى جانب تبني الإسلام كنظام للحياة، ونحن الآن على أعتاب مرحلة جديدة، وهي مرحلة تتطلب إكتشاف النظم والإجراءات التي يمكن بها أن يحكم الإسلام حياتنا المعاصرة، وهي مهمة مختلفة، تتطلب تأهيلا مختلفا، وتستخدم فيها أساليب مختلفة في الفكر والعمل، وجيلهم لم يكن في حاجة لهذه الأساليب والخبرات فلم يتعلمها أو يصل إليها، هذه مهمة الجيل الثالث، الذي عليه أن يجد طريقه بنفسه .. لاحظ أن هذا الكلام قيل في يناير 1981، وهو كلام عاقل وحكيم، ومعناه أن الإخوان لابد وأنهم يوجهون كوادرهم الشابة للتفكير في مهام التغيير وقضاياه .. بدا هذا كله وقتها مقنعا ومطمئنا، ومبشرا بأنه عندما يحين الوقت سنجد لدى الإخوان أهدافا مباشرة وعملية يحشدون الجماهير خلفها ويربطونها بالصورة المثالية للمجتمع المنشود، وسيكون لديهم برنامجا يحتوي على خطوات إجرائية محددة تؤتي نتائج ملموسة تقنع الناس بأنهم على الطريق السليم، صحيح أن الإصطدام بالواقع قد يملي بعض التعديلات، لكن هذا هو حال كل حركات التغيير الكبرى في التاريخ الإنساني (بما فيها تجربة متابعة إنشاء الدولة الإسلامية الأولي وتنظيم نموها في عهد الراشدين).

          كيف إذن لم نجد لدى الإخوان المسلمين أية مقترحات لتغيير النظام الإجتماعي والإقتصادي والسياسي في يناير 2011، بعد ثلاثة عقود كاملة من هذا الحوار؟ .. كيف وجدنا الرئيس المنتخب – فك الله أسره – يواصل ذات السياسات الإقتصادية لنظام مبارك، ويريد إعادة بناء النظام السياسي على نفس الأسس التي حكم بها مبارك، وكأن غياب الواقع الإسلامي لم يكن إلا بسبب فساد مبارك وأعوانه؟؟!!   

شارك المقال