8 – من سيحمي المرجعية الإسلامية؟

منذ 5 سنة | 1966 مشاهدات

لم يخل طرح واحد من الأطروحات التي إطلعت عليها لإسلاميين يقبلون الديمقراطية من بحث قضية حماية المرجعية، وكأنهم جميعا يتملكهم هاجس أن يتخلى البرلمان المنتخب عن الإلتزام بأحكام الشريعة، وكلهم بلا إستثناء يتجهون لإسناد مهمة حماية المرجعية الإسلامية لهيئة تتشكل وفقا لأحكام توضع في الدستور.

          واحدة من الأطروحات الأكثر تطرفا، رغم أن طرحها جاء ممن إعتدت أن أراهم ضمن المجددين المنفتحين، ذهبت إلى أن يقتصر دور البرلمان على الرقابة على أجهزة السلطة التنفيذية وإعتماد الموازنة العامة للدولة وغيرها من الوظائف التي لا تتعلق بسن القوانين، أما التشريع فقد رأوا أن يسند إلى هيئة مستقلة أسموها مؤسسة الإجتهاد، تتكون من علماء في الدين بالإضافة إلى بعض المتخصصين في العلوم المدنية المرتبطة بالتشريع، وإنشغلوا بمناقشة أسلوب إختيار الأعضاء وطريقة إتخاذ القرارات داخل هذه المؤسسة، وفي المسودة التي أرسلها الأستاذ محمد مهدي عاكف رحمه الله إلى بعض المثقفبن وأصحاب الرأي على أنها مقترح أولي لبرناج الحزب الذي يزمع الإخوان تأسيسه قبل الثورة، طالبا آراءهم، إقترح إنشاء هيئة منتخبة من العلماء تكون مهمتها إبداء الرأي في مشروعات القوانين قبل عرضها للتصويت في البرلمان، على أن يكون رأيها إستشاريا (علق الكثيرون على أن رأي مجموعة رسمية من كبار العلماء لا يمكن أن يكون إستشاريا من الناحية العملية، فمن هو النائب الذي سيجروء على تبني قانون أعلنت هذه الهيئة أنها تراه غير موافق للشريعة؟)، وعندما حان أوان إعداد دستور إسلامي بعد الثورة أسند أعضاء الهيئة التأسيسية هذه المهمة نفسها للأزهر.

          نحن نعارض أي محاولة لخلق هيئة رسمية لإلزام الدولة بالمرجعية الإسلامية، فحتى لو بدأت كهيئة إستشارية فسيؤول أمرها لأن تصبح مؤسسة دينية إسلامية، وجوهر الفكرة الإسلامية يتعارض مع وجود مثل هذه المؤسسة، كما توجد النصوص التي تنهى عن إنشائها، وسنخصص بإذن الله مقالا مستقلا لهذه القضية.

          يظل السؤالان معلقان:

          الأول: لماذا يفكر بعض الإسلاميين (أغلبهم في الواقع) في إنشاء هيئة رسمية لإلزام الدولة بالمرجعية الإسلامية؟

          الثاني: إذا لم نوجد هذه الهيئة، فمن الذي سيحمي المرجعية الإسلامية من إنحراف أجهزة الدولة عنها؟

          لا يمكن تبرير وجود هذه الهيئة الرسمية ذات الصلاحيات الدستورية بأن نواب الشعب يتم إنتخابهم على أساس برامجهم السياسية ومن ثم فقد لا يكونون على دراية كافية بالجوانب الشرعية للقوانين، ففي كل برلمانات العالم يسن النواب قوانين يجهل أغلبهم جوانبها المتخصصة (في الإقتصاد والإجتماع والصحة والتعليم والبناء والمرور .. إلخ)، ولأن النواب هناك يفترض فيهم الحرص على مصالح شعوبهم فإنهم سيسعون إلى المساعدة التي توفرها اللجان النوعية في البرلمان وجلسات الإستماع والأمانات الفنية في الأحزاب وغيرها، المهم أن النظام يثق في أن النائب سيسعى لتثقيف نفسه حول الموضوع، وكل المطلوب هو أن نوفر له مصادر هذا التثقيف، فلماذا نعامل جهل النواب بالعلوم الشرعية بالذات بطريقة مختلفة؟!!

          المترجح عندي هو أن هؤلاء الإسلاميين الطيبين يتملكهم هاجس أن تأتي الإنتخابات بأغلبية برلمانية لا تريد الإلتزام بالمرجعية الإسلامية، لذلك يفكرون في طريقة لحصارهم ومنعهم من التفلت، فدعونا نناقش هذا الإحتمال وكيفية مواجهته إن حدث.

          في ديموقراطية حقيقية فإن الناس ستختار نوابهم بحرية كاملة، بدون تزوير في الصناديق، وبدون إستبعاد للمرشحين، وبدون إعلام دولة يمارس التضليل، وبدون قمع للإسلاميين يحرمهم من توضيح أفكارهم وتوصيلها للناخبين، فإذا كانت غالبية الشعب تريد حلا إسلاميا فستأتي بالغالبية التي تعكس رغبتها، وسيتحرى النواب موافقة الأحكام الشرعية كما يتحرون تحقيق المصالح الدنيوية، ولا حاجة بنا للتفكير في كيفية إلزامهم.

          أما إذا أفرزت الديمقراطية الحقيقية برلمانا ذو أغلبية لا تتحمس لتطبيق الشريعة فالمشكلة في الشعب وليست في البرلمان، والإسلام بالذات لا يمكن فرضه بالقوة على شعب لا يريده، ليس فقط لأن النصوص تمنعنا من الإكراه، ولكن لأن طبيعة الأحكام الشرعية تقتضي وجود درجة معقولة من الإنضباط الإجتماعي الذاتي، وإلا ستتحول المجتمعات إلى كيانات يسودها النفاق المفضي إلى الفشل (هذه قضية أخرى تستحق التفصيل في موضع آخر)، والموقف الصحيح هو أن نحتمي بالممارسات الديمقراطية لنوضح للناس ما يجب عليهم تجاه دينهم وأمتهم، أو لندعوهم للإسلام إن كانوا قد خرجوا منه (وهي حالة لم تحدث في تاريخنا قط).

          تبقى الحالة التي لا تكون فيها الديموقراطية حقيقية، حالة البرلمان الذي لا يمثل الإرادة الشعبية .. من إذن الذي سيقرر النصوص التي تقترحونها؟ .. ولو حدث وتقررت في ظروف مد ثوري شعبي (كالذي صاحب إعداد دستور 2012 رغم تحفظنا على عديد من بنوده) فسرعان ما سيتم إلغاء هذه النصوص أو تعديلها .. هل يجيب هذا على السؤال الثاني ضمنا؟

          لقد خاطب القرآن كل المؤمنين، وترك رسول الله (ص) الإسلام في عهدة الأمة، هي المسئولة عن الحفاظ عليه، والحركة الإسلامية لا تملك إلا أن تطرح برامجها على الناس، فإن قبلوها فلله الحمد والمنة، وإن أعرضوا فإن النظام الديمقراطي الحقيقي كفيل بمنح الإسلاميين فرصتهم كاملة لعرض أفكارهم ودعوة الناس لها، وإن لم يكن النظام ديمقراطيا فإن الجهاد الحقيقي في هذا الظرف هو العمل على بناء الديمقراطية وترسيخها، حتى لو كانت ستأتي بغير الإسلاميين للحكم في المرحلة الأولى .. لا بديل عن توفير المناخ الديموقراطي والدفاع عنه وترسيخه مهما كانت نتائجه، فهو وسيلتنا لدعوة الناس، فدورنا هو دعوتهم، أما الإستجابة فليست قضيتنا .. لا يوجد في الإسلام أن نجبر الناس على الدخول في ملكوت الله.

          المسلمون هم الذين يحمون مرجعيتهم، والخطوة الأولى التي يجب أن يخطوها هؤلاء الذين يزعمون أنهم يجاهدون لتكون كلمة الله هي العليا ليست إلا بناء النظام الديمقراطي الحقيقي وترسيخه والدفاع عنه حسبة لوجه الله الكريم، وبعدها ستسود مرجعية الأمه مهما كانت هذه المرجعية، فإن كانت الأمة مسلمة كما نرجو ونحسب فسيتحقق لها وعد الله، وإن كانت غير ذلك فهي تستحق وعيده، وسنكون قد أدينا ما علينا على أي حال، ولله الأمر من قبل ومن بعد.  

  

شارك المقال