منذ 6 سنة | 4006 مشاهدات
المذهب الفردي هو الأساس الفلسفي الذي تقوم عليه كل النظم الرأسمالية التي تعتمد على السوق الحر، وهو يرفض، من الوجهة النظرية، تدخل الدولة في فاعليات السوق، ولا تتطرف أغلب النظم الرأسمالية في رفض تدخل الدولة في عمليات التوزيع والإستهلاك كما هو حادث في الإقتصاد الأمريكي، غير أنها كلها ترفض التدخل المباشر للدولة في تخطيط الإنتاج وتوزيع الموارد على القطاعات الإنتاجية، أما الإقتصاد الجماعي فهو الذي يفترض للدولة دورا في تخطيط الإنتاج وتوجيهه لصالح المجتمع، بالطبع تتخذ الماركسية موقفا جماعيا متطرفا، فتعطي للدولة حق التخطيط الشامل وتوجيه كل الموارد من خلال إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وتحكم الدولة في كل الفاعليات الإقتصادية، لكن هناك مستويات متعددة لتدخل الدولة تترك مساحات مختلفة للمبادرات الفردية ولمدى التدخل في تخطيط الإنتاج .. إذا كان الإقتصاد الإسلامي هو فعلا نسخة منقحة من الإقتصاد الفردي الحر فربما وجدنا عذرا لمن يريد إقامة النظام الإقتصادي في الدولة الإسلامية على أسس ليبرالية، أما إذا كنا مقتنعين بأن الإقتصاد الإسلامي هو واحد من عائلة الإقتصادات الجماعية التي لا تصدق أن المبادرات الفردية ستحقق وحدها وتلقائيا الخير للجميع، وأن الدولة – كوكيل عن المجتمع - يجب أن تلعب دورا ما في توجيه الفاعليات الإقتصادية، فإن تأجيل عرض أدلتنا على صحة وجهة نظرنا حتى يخرج قيادات الإخوان من المعتقلات لن يكون في صالح حركة الإحياء الإسلامي، وفي القلب منها الإخوان المسلمين أنفسهم .. فمرة أخرى ليس هذا إعتراضا على المنهج الفكري للإخوان، إنه إعتراض على برنامجهم الرئاسي لعام 2012 لأنه خرج على المنهج الفكري الذي تأسست عليه الجماعة نفسها كما فهمناه من رسائل الإمام حسن البنا وكتابات الأستاذ سيد قطب رحمهما الله.
ربما كان الأنسب في هذا المجال هو أن نعرض أدلتنا على أن الفكر الإقتصادي الإسلامي لا يمكن أن يطبق في ظل نظام إقتصادي ليبرالي حر، كهذا الذي نجده في برنامج مشروع النهضة، ومع ذلك فإننا نفضل أن نبدأ أولا بعرض ما نظنه العوامل التي أدت بالإخوان إلى إعلان برنامج إقتصادي يختلف مع فكر المؤسس رحمه الله ، برغم أنهم في كل مجال آخر يتحفظون على أي خروج أو مراجعة لهذا الفكر .. ما الذي حدث في العقود الأربعة التي تفصل حسن البنا وسيد قطب عن محمد مرسي وخيرت الشاطر؟
* * * * *
إن الإقتصاد هو مجموعة الأنشطة والفاعليات التي يقوم بها الناس لإنتاج حاجاتهم المادية وتوزيع هذا الناتح بين الأفراد، وبهذا المفهوم فالإقتصاد هو ظاهرة إجتماعية، لا يمكن فصلها عن مجمل الظواهر الإجتماعية الأخرى، وعن العلاقات التي يرتبط بها الناس، والقيم التي تحكم سلوكهم، والمشاكل المختلفة التي يعانون منها في حياتهم (راجع مقال "الخصوصية الثقافية")، فالإستعمار والتبعية مثلا يؤديان إلى تدني القدرة الإقتصادية للمجتمع، لكن دراسة أسباب الإستعمار وأساليب التحرر منه نجدها في العلوم السياسية، والفساد يؤدي إلى سوء توزيع ناتج الفاعليات الإقتصادية، فيستحوذ أقلية من الناس على أكثر بكثير مما يستحقون، وتعاني الأغلبية من الفقر والحرمان، وبرغم أن أسلوب توزيع الناتج هو جزء أساسي من النظام الإقتصادي، فإن علاج الفساد يدخل ضمن مجالات القانون والأمن والسياسة .. فاستقلال الإقتصاد كعلم قد جاء نتيجة الحاجة للتخصص، فمن الصعب على أي باحث أن يدرس كل جوانب الحياة الإجتماعية، لكنه قد ينسى في غمرة بحثه النظري، أو يتجاهل، أن ما يقوم بفحصه من عمليات تتعلق بالإنتاج والتوزيع والإستهلاك لا يمكن فهمه فهما كاملا بمعزل عن السلوك الإنساني والتنظيم السياسي والإجتماعي .. الخ، وبالمثل لا يمكن الحديث عن النظام الاقتصادي دون ربطه بالتنظيم السياسي والاجتماعي والقانوني .. إلخ.
وإذا تصفحنا رسائل الإمام الشهيد حسن البنا فربما لن نلحظ فكرا إقتصاديا ناضجا، لكننا سنجد فكرا إجتماعيا عميقا ناصع الوضوح، وفكرا سياسيا ناضجا قطع فيه شوطا بعيدا استكملته الجماعة بإعلانها سنة 1994 القبول بالتعددية الحزبية في الدولة الإسلامية وان الأمة هي مصدر السلطات .. ودون الدخول في التفاصيل ستجد البنا يتحدث عن المجتمع الإسلامي الذي يقوم على التكافل والتراحم بين أبنائه ويعطي لكل فرد الحق في الحصول على كفايته حتى يعيش حياة كريمة، وهذا المجتمع لا يمكن تحققه مطلقا في ظل إقتصاد حر على النمط الليبرالي، الذي تنسحب فيه الدولة من إدارة الاقتصاد الذي يقوم على المنافسة التامة ويؤمن بحق كل إنسان في الإستمتاع بكامل كسبه دون حقوق للمجتمع عليه.
أما الشهيد سيد قطب رحمه الله فكان مفكرا وأديبا، ولم يكن عالما في الإجتماع أو السياسة أو الإقتصاد، لكن فهمه العميق للمقاصد العليا للإسلام قاده إلى التأكيد على "العدالة الإجتماعية في الإسلام" وعلى "معركة الإسلام والرأسمالية" وجعلهما عنوانين لإثنين من أهم كتبه (في تقديرنا)، موضحا أن المجتمع الإسلامي لا يمكن أن يقوم في ظل نظام رأسمالي بما يحمله من نزعة فردية أنانية وما ينتج عنه من مظالم لابد أن تقع على الغالبية العظمى من الناس، لكنه لم يتعرض لصياغة نظرية أو مذهب واضح للإقتصاد في مجتمع مسلم .. لقد قام بتشخيص المشاكل وتكلم عما لا يجب عمله، لكنه عندما حاول تقديم تصور لما ينبغي عمله كان أديبا بامتياز ولم يقدم فكرا ناضجا يمكن البناء عليه عند صياغة برنامجا للتغيير.
الأمر المؤكد هو أن تصورات مؤسس حركة الإخوان المسلمين عن المجتمع الإسلامي لا تسمح لمن يلتزم بها أن يدير الإقتصاد على أساس المنافسة الحرة وبدون تدخل من الدولة، أما سيد قطب فلم يترك لأحد الفرصة للإستنتاج، لقد أعلنها بقوة: ليس فقط أن الإسلام لن يتبنى الإقتصاد الحر، بل هو سيدخل حتما في معركة مع الرأسمالية .. كان هذا هو حال فكر الإخوان حتى منتصف الخمسينات، فكيف وقع الإخوان إذن في فخ الإقتصاد الحر؟ .. سنتابع بإذن الله.