منذ 6 سنة | 3555 مشاهدات
في الستينات تصاعد المد القومي في المنطقة العربية رافعا لافتات الإشتراكية العربية (مع أنها في الواقع كانت نظم رأسمالية دولة دكتاتورية) .. عبد الناصر باتحاده الإشتراكي العربي في مصر، وحزب البعث العربي الإشتراكي في سوريا والعراق ونظام هواري بومدين في الجزائر .. ودخلت النظم الجديدة في صراع مع كل من الإسلاميين والغرب، مع الإسلاميين لأنهم القوة الأكبر التي كانت تمثل تحديا لسلطتهم الإستبدادية، والغرب لأن هذه النظم قامت على أنقاض بعض أهم الحلفاء التقليدين له، وتحاول إنتهاج سياسات مستقلة عنه.
قام الإتحاد السوفياتي بدعم الأنظمة القومية العربية، ربما لأنها رفعت رايات الإشتراكية (مع أن عبد الناصر كان وقتها يعتقل الشيوعيين المصريين، الذين ناصبوه العداء بدورهم، وأعلنوا أنه مجرد ديكتاتور فاشي عسكري يستغل فكرة رأسمالية الدولة ليحتكر السلطة الإقتصادية ويهيمن عليها لا ليبني نظام إشتراكي حقيقي) أو ربما لمجرد مناكفة الغرب وإضعاف نفوذه في المنطقة.
لم يكن الإسلاميون في مصر قادرين في الستينات على إدارة أي صراع جدي مع عبد الناصر، فقد ضعضعتهم ضربات الخمسينات القاسية، لكن الغرب هو الذي استخدم ورقة الإسلام (وكانت أداته الرئيسية هي نظام آل سعود) ضمن وسائله للحد من نفوذ النظم القومية المتحالفة مع عدوه العالمي، بهدف إسقاط شعبيتها في وجدان شعوب المنطقة التي صارت تعد عبد الناصر زعيما لكل العرب.
فقد عملت الدعاية الغربية الذكية على نشر فكرة أن تعاليم الإسلام تتوافق تماما مع آليات الإقتصاد الحر كما تعرضها النظرية الإقتصادية الليبرالية (النيوكلاسيكية)، وأن تحديث العالم الإسلامي وإستعادة مجده لا يمكن إلا من خلال تبني النظام الرأسمالي على النمط الغربي .. بالطبع لم تكن هذه الدعاية تعلن الفكرة بتلك الفجاجة التي نعرضها نحن بها، لكنها استعانت بأصوات إسلامية عملت – بحسن نية أو بغيرها – على ترويجها بالشكل التالي:
إن الإسلام يحمي الملكية الفردية ويضمن حق الفرد في حرية التصرف في ماله كما يشاء ما دام يؤدي زكاته (كما يدفع الرأسماليون الضرائب)، ولا يعد تحريم التعامل في بعض السلع (كالخمر مثلا) تعارضا مع نظام السوق الحر، فالدول الرأسمالية العتيدة تجرم تجارة المخدرات دون أن يرى أحد في ذلك خروجا على حرية السوق، أما تحريم الربا فليس تدخلا في حرية السوق ولا يضع قيدا على المنافسة أو آليات العرض والطلب، إنه فقط تقييد لبعض وسائل التمويل، والإستجابة لهذا التحريم لا تتطلب إلا تطوير نظام بديل لجمع المدخرات ولتمويل الإستثمارات بدون التعامل بالفائدة أخذا أو عطاء (بنوك لا ربوية أسموها إسلامية)، أما الأحكام الفقهية الواردة في فقه المعاملات فكلها لا تهدف إلا لمنع الغش والغرر والإحكتار وضمان الإلتزام بالعقود، وكلها قواعد توصي بها نظرية الإقتصاد الحر وتعمل قوانين الدول الرأسمالية على تأكيدها بطريقتها الخاصة .. فالرأسمالية إذن هي النظام الذي توصي به تعاليم الإسلام، ومن يريد تدمير الرأسمالية هو لا شك عدو للإسلام.
أسلوب ذكي ولا شك، وفخ يمكنك أن تقع فيه دون أن تشعر بأي وخز في ضميرك، ليصبح إقتصادك بعدها جزءا عضويا من إقتصاد عدوك التاريخي وتابعا له .. سنقوم فيما بعد بتفنيد كل هذه الحجج وإيضاح كمية المغالطات الكامنة فيها، لكننا لا نهدف الآن إلا لتوضيح الطريقة التي تم إستدراج كل الإسلاميين إلى فخ الحل الليبرالي، وليس الإخوان وحدهم هم الذين وقعوا في هذا الفخ.
لقد تبنى الملوك والأمراء والمشايخ العرب هذه الأفكار وعملوا على نشرها في دائرة سلطانهم لأنها تحقق مصالحهم، وتبرر تبعيتهم للغرب، وتحمي عروشهم من تمدد النفوذ الناصري، أما الإسلاميون، كلهم وليس الإخوان فقط، فقد تبنوها إما لأنها أقنعتهم (فلم يكن الفكر الإسلامي قد أفرز بعد نموذجا واضحا للإقتصاد الذي ستقيمه النظم الإسلامية) أو لأنها ترضي عندهم حاجة نفسية للشعور بأن جلاديهم هم أعداء للإسلام (ولم يكن النظام السعودي الذي آوى الإخوان المصريين وقتها قد أسفر بعد عن وجهه الحقيقي كواحد من هؤلاء الجلادين) .. وأرجو ألا يتصور القارئ أننا ندافع عن الممارسات الناصرية، فقد كانت لها تجاوزاتها، بل وجرائمها العديدة، لكن هذا لا ينبغي أن يجعلنا ننزلق إلى الطعن في أهداف النضال الوطني الأصيلة لمجرد أن عبد الناصر كان يضمنها في شعاراته (ولن ننشغل هنا ببحث ما إذا كان قد رفع هذه الشعارات بإخلاص أو لمجرد إجتذاب الجماهير)، فبناء الإقتصاد المستقل وتحقيق العدالة الإجتماعية وتقريب الفوارق بين الطبقات وضرب الإحتكار وغيرها مما يتبناه الناصريون هي أهداف يحترمها الفكر الإسلامي، ويدخلها في مقاصده، ويعمل على تحقيقها بطريقته المختلفة والمتميزة، والتجاوز والخطأ في الوسائل، أو حتى الجرائم وإغتصاب أموال الناس، لا ينبغي أن يستدرجنا لرفض الأهداف نفسها.
* * * * *
كان الضغط النفسي الذي عانى منه الإخوان نتيجة القهر الذي مارسه عليهم نظام عبد الناصر سببا لتبني بعض قواعدهم لفكرة تكفير الحكام، ووصل بعضهم إلى تكفير المجتمع كله والحكم بجاهليته، لكن القيادة كانت أحكم وأنضج من أن تنساق خلف هذه الدوافع النفسية، فتصدت بشدة لهذا الإتجاه وأنتجت كتابها المشهور "دعاة لا قضاة" لتعيد غالبية الإخوان إلى رشدها، وهذا يؤدي بنا إلى التساؤل: إذا كانت الضغوط النفسية تصلح لتفسير قبول قواعد الإخوان لفكرة أن تبني أهدافا جماعية في الإقتصاد يعد عداء للإسلام، فما الذي أدى بالقيادة للإنزلاق إلى تبني ذات الفكرة – أو على الأقل لقبول أن الإقتصاد في المجتمع المسلم ليس بالضرورة ذو إتجاه جماعي – متجاهلة بذلك فكر حسن البنا وسيد قطب وأغلب المفكرين الإسلاميين في كتاباتهم التي تناولت الجوانب الإقتصادية للمجتمع المسلم، نذكر منهم مالك بن نبي ومصطفى السباعي ومحمد باقر صدر وعيسى عبده وأحمد عبد العزيز النجار (الذي أصل فكرة البنوك الإسلامية وآليات عملها) ومحمد الغزالي وأستاذي عادل حسين رحمة الله عليهم أجمعين، ثم الدكتور يوسف القرضاوي منذ كتب في السبعينات عن مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام حتى كتب من سنوات قليلة عن الأخلاق في الإقتصاد الإسلامي مرورا بكل ما كتبه عن مقاصد الشريعة الإسلامية .. لا بد أن هناك عوامل موضوعية أثرت على فكر قيادة الإخوان الحالية جعلتها تقدم برنامجا إقتصاديا ليبراليا .. فمجرد الرغبة في مهادنة أمريكا لا تكفي لذلك .. حل هذا اللغز قضية نتركها للتاريخ، فما حدث قد حدث .. قدر الله وما شاء فعل .. المهم هو البحث عن طريقة للخروج من هذه المصيدة قبل أن يستبدل الله بنا قوما غيرنا ثم لا يكونوا أمثالنا، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.